الجمعة: 2006.08.11

إعداد: قسم الترجمة

الحلقة الخامسة عشرة

إفرايم هاليفي: الفلسطينيون فتحوا صفحة جديدة وأعادوا صياغة سياستهم بعد أن أودعوا عرفات وتراثه في ذمة التاريخ..

يكمل إفرايم هاليفي ما بدأه عن أهمية المستويات الاحترافية الاسرائيلية التي يقصد بها العسكرية والأمنية، معتبرا أنها حازت على ثقة الخصوم، من جهة ثانية، يشدد هاليفي على دور الدعم الذي يتلقاه الفلسطينيون من العالمين العربي والاسلامي وما يعنيه ذلك من ان الجماهير لم تغير نظرتها بالنسبة الى إسرائيل, ويشير هاليفي أخيرا الى أهمية الدور القطري على الساحة السياسية الاقليمية.
ويلفت هاليفي ان المؤسسة الدفاعية صاغت الظروف والشروط التي حكمت عملية تنفيذ المبادرات السياسية المتعاقبة التي اتخذها القادة السياسيون, ولأن الاعتبارات الامنية كانت دائما هي المهيمنة على الساحتين الداخلية والعالمية اللتين شكلتا مصير دولة اسرائيل منذ ولادتها، فإن الطبقة الاحترافية المؤلفة من رؤساء الاجهزة الامنية والدفاعية دأبت على الهيمنة على المشهد العام وكان لها دائما القول الفصل في ما هو ممكن وبشكل استثنائي في ما هو مرغوب وعموما، فإن الفشل كان هو محصلة تلك الحالات النادرة التي قرر فيها المستوى السياسي ان يمضي في طريق ما بمفرده من دون الاستعانة بآراء الاحترافيين الدفاعيين لدعم القرارات السياسية، وأحد الامثلة على ذلك كانت عملية أوسلو التي قام السياسيون خلالها بصياغة اتفاق كان الاول من نوعه مع الفلسطينيين وهو الاتفاق الذي منحهم قدرا كبيرا من الحكم الذاتي، تمهيدا للدخول في مفاوضات الوضع النهائي التي هي عبارة عن كناية أو تورية تم استخدامها في البداية لتفادي استخدام مصطلح laquo;الدولة الفلسطينيةraquo;، والواقع ان بنود ذلك الاتفاق كانت غير متناسقة الى درجة جعلته يستحق ان يوصف بأنه كالجبن السويسري، لأنه كان ينطوي على فجوات أكثر ما يوجد عادة في ذلك النوع من الجبن أو في رأي كثيرين، بمن فيهم أنا، فإن تلك كانت طريقة كارثية لصنع القرار ليس فقط على صعيد الهدف النهائي في ما بعد الانجاز، ولكن لأن ذلك الاتفاق اطلق العنان لأكثر من عشرة أعوام من الصراع الذي خلف آلاف من القتلى على الجانبينraquo;.


المستويات الاحترافية تحوز ثقة الخصوم
ويؤكد هاليفي انه laquo;في أحيان كثيرة كانت المستويات الاحترافية هي التي تتولى اجراء الاتصالات والمفاوضات الأهم مع خصوم اسرائيل، وعلى سبيل المثال، فإن ثلاثة من رؤساء وكالة الامن الاسرائيلية لم يقيموا علاقات عمل مع نظرائهم في السلطة الفلسطينية فحسب، بل أنهم تمتعوا ايضا بالثقة الشخصية من جانب ياسر عرفات الذي كان زعيما ورمزا للحركة الوطنية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته فإن رؤساء الموساد كان لهم دور محوري في خدمة الروابط الاساسية الخاصة بعلاقات اسرائيل مع العالم العربي، وافضل مثال معروف على ذلك كانت تلك العلاقة التي استمرت على مدى عقود من الزمن بين العاهل الاردني الملك حسين وبين القيادة الاسرائيلية، إلا ان ذلك لم يكن المثال الوحيد بأي حال من الاحوال، والواقع ان laquo;منظومةraquo; العلاقات الخارجية تلك امتدت لتشمل دولا رئيسية في منطقة الشرق الاوسط، أمثال ايران ما قبل الخميني وتركيا، بالاضافة الى دول اسلامية أبعد جغرافيا، كالمغرب الذي لم يلعب دورا جوهريا في تسهيل أول معاهدة سلام بين اسرائيل وبين دولة عربية - ألا وهي مصر - فحسب، بل استمر أيضا ليزود اسرائيل بوساطات فريدة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وهي الوساطات التي أدت الى انجاز اتفاق أوسلو في العام 1993raquo;.
ويعتبرها ليفي laquo;ان هذه العلاقات الطويلة الامد اضافت نكهة خاصة إلى السياسات الاسرائيلية والى علاقاتها مع خصومها وشركائها على حد سواء، فالمعلومات الحميمة التي حصل عليها كل طرف عن الآخرين ساهمت في كثير من الحالات في تمكن الاطراف من تفادي اخطاء واساءات فهم كبرى، إلا ان ما حصل في الوقت ذاته هو ان ذلك الفيض الغزير من المعلومات والتقارير الاستخباراتية أدى ايضا في بعض الاحيان الى اعمار وإلهاء الاطراف عن بذل أي جهود حقيقية في سبيل اعداد الرأي العام كي يتوقع حدوث تغييرات جوهرية في التوجهات والاساليب المتعلقة بالصراعات القائمة، وفي الحقيقة، فإن هذه الحميمية جعلت المستويات الاحترافية تستصغر أو تستهين بضرورة الاهتمام باحتياجات ومتطلبات الشعوب عموما, وفي حالة وكالة الامن الاسرائيلية، فإن كثيرين من الشخصيات السياسية والصاعدة في المعسكر الفلسطيني كانوا قد قضوا اعواما في السجون الاسرائيلية، وبالتالي، فإنه كان من شبه المستحيل نفسيا على الاسرائيليين ان يغيروا طريقة نظرتهم الى أولئك الافراد بحيث ينظرون اليهم كنظراء لهم بعد ان كانوا ينظرون اليهم باعتبارهم كانوا سجناء لديهم، تلك التوجهات المتعالية من جانب الاحترافيين انتقلت تدريجيا الى القادة السياسيين، وبما ان الاسرائيليين دأبوا على الشكوى من ان نظراءهم (الفلسطينيين) لم ينجحوا في القيام بالتحول من الصراع المسلح الى نظام الدولة - وهو الادعاء الذي كان صحيحا ونابعا من حقائق - فإنه كان من الصعب عليهم، ان لم يكن من المستحيل، ان يتغاضوا عن التحدي اليومي الناجم عن الارهاب وعن انتكاساته الوخيمة، وان يتفاوضوا مع الفلسطينيين وكأنهم قد اصبحوا اندادهم, ففي واقع الامر، كان ذلك الامر مستحيلا من الناحية الانسانيةraquo;.


الجماهير لا تغير نظرتها
يبين هاليفي laquo;انه في ظل تلك الظروف، كان من المستحيل عمليا التفكير في محاولة حقيقية من جانب القوى العظمى آنذاك في سبيل اطلاق جهد مستدام يهدف الى اقناع الناس على جانبي الصراع بأن يغيروا افكارهم وان ينخرطوا في عملية قبول واعتراف متبادل وبطبيعة الحال فإن استمرار ممارسة الارهاب والعنف - ليس فقط من جانب الفلسطينيين ولكن ايضا من جانب داعميهم وحاضنيهم النشطين في العالمين العربي والاسلامي - أدى الى تركيز الاهتمام على الجوانب الاخرى، وبين الحين والآخر كان الاهتمام يُعطى للعوامل والضرورات الاقتصادية إلا انه بالمقارنة مع القلق الاساسي، فإن الاستثمار في تلك المجالات ضئيل في افضل الاحوال، وفي الواقع، فإن البنود التفصيلية لاتفاق أوسلو الاصلي مع الفلسطينيين كانت تشتمل على جزئية مخصصة لما كان يسمى بأنشطة laquo;الشعوب الى الشعوبraquo; إلا انه لم يتم تنفيذ أي شيء من ذلك عمليا، ناهيك عن تحقيق أي انجاز في ذلك الصدد، كما ان اللاعبين الاساسيين على كلا الجانبين نظروا الى ذلك العنصر باعتباره أمرا ثانويا للغاية وقرروا شطب الفكرة برمتها على اعتبار أنها مجرد واحدة من اجراءات laquo;العلاقات العامةraquo;.
ويضيف هاليفي laquo;ان المحصلة النهائية لكل هذا كانت - ومازالت - انه لم يكن هناك على الجانب العربي بشكل اساسي أي محاولة حقيقية في سبيل تغيير مناخ التحريض المسعور والكراهية الشاملة لاسرائيل وهو المناخ الذي ميز العالمين العربي الاسلامي منذ بروز دولة اسرائيل الى حيز الوجود، فالذي حصل في حالات كثيرة هو ان الدول العربية التي أبرمت معاهدات سلام مع اسرائيل (تحديدا مصر والاردن) أو تلك التي توصلت الى تفاهمات عملية مع اسرائيل كالمغرب وتونس وعُمان وقطر سمحت بالتحريض ضد إسرائيل في وسائل الاعلام وفي غيرها كاجراء كان الهدف من ورائه هو السماح للجموع الجماهيرية بالتعبير عن غضبها وبالتالي تحقيق الضغوط الداخلية الناجمة أصلا عن اسباب منعزلة تماما عن الصراع العربي الاسرائيلي، أحد أبرز الامثلة التي تكشف عن ذلك النهج الديالكتيكي المزدوج يمكن ان نراه في إمارة قطر التي اطلقت وقامت بتنفيذ سياسات تتعلق بالنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وهي السياسات التي خلقت سوابق ووقائع جديدة على الارض, لقد أصبحت قطر (منذ فترة) في صدارة الدول العربية التي تقيم حوارا مستمرا مع اسرائيل حيث أنها تستضيف ممثلية ديبلوماسية اسرائيلية رسمية في الدوحة كما أنها تستضيف الوزراء الاسرائيليين الذين يزورون قطر تباعا للمشاركة في محافل دولية.
وفي الوقت ذاته، تستضيف قطر الشيخ يوسف القرضاوي (,,,) الذي أيد العمليات الانتحارية، كما انه دأب على حث الفلسطينيين وغيرهم على اللجوء الى تلك الاستراتيجية التي أفرزت نتائج مميتة, وتلك ايضا هي قطر ذاتها التي تستضيف محطة laquo;الجزيرةraquo; التلفزيونية التي طالما استخدمت بكثافة من جانب - تنظيم القاعدة وغيره من المنظمات الاسلامية الارهابية لنشر صوت تلك الجماعات العنيفة في جميع أرجاء العالم الاسلامي, والواقع ان المحصلة النهائية لكل هذا هي انه رغم ان المستويات الحكومية الرفيعة في العالم العربي شهدت قبولا متزايدا ومطردا بدولة اسرائيل كحقيقة واقعة - الى حد ان بعض تلك الحكومات باتت شريكة فعالة في مجال مكافحة العنف في الكراهية - فإن تلك الحكومات ذاتها استمرت في ايواء بل وفي بعض الاحيان تشجيع الانشطة الشعبية التي تتصادم وتتناقض مع سياساتها ومصالحها الاستراتيجية المزعومةraquo;.


الدور القطري
يشيد هاليفي بدور قطر ويعتبرها laquo;نموذجا متميزا في ما يتعلق بالجوانب الاضافية الخاصة بمسيرة الاحداث الراهنة في المنطقة، فتلك الدولة بقيت في طليعة مصالح وأنشطة الولايات المتحدة منذ أكثر من عشرة اعوام حتى الآن، كما أنها لعبت ومازالت تلعب دورا محوريا في توفير التسهيلات والمرافق للقوات المسلحة التي تعمل في داخل العراق منذ ان شن الرئيس بوش الحرب التي اسقطت نظام صدام حسين, وأظهرت القيادة القطرية ميلا الى المبادرة الى خطوات من الممكن وصفها بأنها laquo;جديدة تماماraquo; فلعبت بالتالي الدور المزدوج كحليف يمكن الاعتماد عليه وكشريك زئيفي، بحيث دأبت دائما على الاتيان بمفاجآت والتهديد بقلب الامور رأسا على عقب ولأن القطريين استضافوا أحد كبار قادة الحركة الفلسطينية - ألا وهو أبومازن الخليفة المباشر لياسر عرفات - فإنهم أحدثوا تأثيرا على تفكير وعلى مستقبل هذا القائد الفلسطيني الى ما هو أبعد بكثير من التأثير النسبي الذي كان معتقدا وذلك في ظل ساحة الامارة (قطر) وتعداد سكانها الذي يبلغ نحو نصف مليون نسمة ولقد حاول القطريون ان يؤثروا على تفكير الفلسطينيين كي يخفضوا من حدة مواقفهم وكي يتوصلوا الى حلول وسط قابلة للتطبيق مع اسرائيل, وفي الوقت ذاته، وفرت قطر ملاذا آمنا لعدد من الكوادر الرئيسية في حركة laquo;حماسraquo; بعد ان تم نفيهم من الاردن بعد فترة وجيزة من اعتلاء الملك عبدالله الثاني عرش والده الراحل الملك حسين.
ولقد ساهم تجاور شخصيات قيادية من حركتي فتح وحماس على الاراضي القطرية في السماح للقطريين بأن يتوسطوا بين الجانبين، إذ حاولوا ايجاد حلول وسط بين الفصيلين الفلسطينيين كما سعوا الى تسهيل التفاهمات الضمنية مع اسرائيل، وفي العام 2005 قررت الولايات المتحدة القبول بأبو مازن كزعيم موثوق للفلسطينيين وألزمت نفسها بدعم ذلك الزعيم الفلسطيني كي توازي بذلك مساندتها الطويلة الامد لارييل شارون ولمعظم اسلافه، والواقع ان ذلك الامر ما كان له ان يحصل لولا وجود دول كدولة قطر التي رعت واحتضنت أمثال ابومازن خلال الاعوام الطوال العجاف التي سبقت وفاة عرفات - تلك الوفاة التي جاءت في الوقت المناسب,,, ولابد ان أنوه هنا بحقيقة انه بعد مرور أقل من سنة عام واحد على رحيل عرفات، فإنه من المدهش ان نسجل كيف ان الفلسطينيين قد فتحوا صفحة جديدة وواصلوا حياتهم حيث أعادوا صياغة أدواتهم الحكومية بعد أن أودعوا عرفات وتراثه في ذمة التاريخ ليصبح بذلك منفصلا تماما عن شؤون الحاضر وخطط المستقبلraquo;.


ويضيف هاليفي انه laquo;في اكتوبر عام 2002، نشرت الصحف الاسرائيلية تسريبات زعمت أنني قد سافرت الى قطر والتقيت سرا هناك مع أبومازن وذلك في محاولة لاطلاق وترسيخ تفاهمات بين رئيس الوزراء ارييل شارون وبين المرشح المحتل لمنصب رئيس وزراء السلطة الفلسطينية, ولم يتم مطلقا نفي ما جاء في تلك التقارير الصحافية التي كان الهدف من وراء ظهورها في ذلك الوقت هو زعزعة مصداقيتي كمبعوث متميز يعمل في خدمة رئيس الوزراء، ومهما كانت نوايا الذين قاموا بتسريب تلك الاخبار، فإن أهدافهم لم تتحقق وبقيت أمارس عملي لمدة بضعة أشهر اضافية قبل ان اتخذ بنفسي المبادرة وأستقيل من منصبي كمستشار للأمن القومي لدى رئيس الوزراء، وطوال تلك الفترة، دأب القطريون - والى جانبهم أصوات مؤثرة أخرى في العالم العربي - على بذل ضغوط متزايدة على ياسر عرفات كي يتخلى عن معارضته الكاملة لفكرة تعيين رئيس وزراء ومنحه صلاحيات فعلية, ولقد كان التأثير الحاسم لذلك الموقف عاملا مهما في اقناع عرفات بالخضوع في أمر كان قد اتخذ بشأنه موقفا عنيدا، وهكذا فإن الجهود المتضافرة، الرامية الى الأخذ عنوة بيد الزعيم الفلسطيني المخضرم واقتياده الى الموافقة على تعيين رئيس وزراء ذي صلاحياتraquo;، تكللت أخيرا بالنجاح كنتيجة لتحالف فريد بذل ضغوطا على ذلك الزعيم، واشتمل ذلك التحالف على الدول العربية المعتدلة الرئيسية ألا وهي مصر والاردن والمغرب، بالاضافة الى الامارتين الخليجيتين قطر وعمان, والى جانب تلك الدول كان هناك الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا ودول أخرى كثيرة، وبشكل عام فإن الديبلوماسية الصامتة أقنعت كل تلك الدول بقبول وتأييد الفكرة وخطة العمل التفصيليةraquo;.


ويتابع هاليفي: laquo;ان المهم في سياق التحليل الحالي هو التأكيد على حقيقة ان خلق ذلك الهيكل laquo;الثنائي القطبraquo; في السلطة الفلسطينية قد أدى الى خلق الظروف الملائمة للناس على الجانب الفلسطيني كي يبدأوا في التعبير عن مشاعرهم بلا قيود كما أدى الى تسهيل بدء حركة تفاعل شعبية حقيقية، ولقد حصل ذلك الامر في العام 2002 والعام 2003، أي بعد مرور عشر سنوات أو نحو ذلك على المحاولة الفاشلة لاطلاق تلك العملية بموجب بنود اتفاق أوسلو الاسرائيلي الفلسطيني، ومن المفارقات ان ذلك الامر أبصر النور في عهد أحد أشد الرافضين والمعارضين لاتفاق أوسلو ألا وهو رئيس الوزراء ارييل شارون، بل ان ذلك لم يصبح ممكنا إلا بفضل المنعطف الدراماتيكي الذي اتخذه شارون من خلال صياغة سياسية اسرائيلية جديدة إزاء القضية الفلسطينية، وهي السياسة التي تنصلت في جوهرها من كل ما كان شارون قد ناضل في سبيله طوال أكثر من ربع قرنraquo;.