د. جلال أمين


أظن أنه آن الأوان لأن نلقي نظرة شاملة علي عهد الرئيس حسني مبارك بأكمله، فها قد مر ربع قرن علي تسلمه حكم مصر، وهي فترة طويلة بأي معيار، تصور أن شخصاً واحداً حكم المصريين فيما بين ١٩٢٥ و١٩٥٠، فشهد قيام النازية والفاشية وسقوطهما، وبدء الأزمة الاقتصادية العالمية ونهايتها، وقيام الحرب العالمية الثانية وانتهاءها، وتحول الاتحاد السوفيتي من دولة متخلفة إلي دولة عظمي...إلخ،

ألا يكون هناك الكثير جداً لنقوله عن عهد هذا الحاكم، وكيف تصرف إزاء هذه الأحداث كلها؟ والمفترض أن أحداث التاريخ تتسارع مع مرور الزمن، وأن ٢٥ عاماً في القرن العشرين لابد أن تشهد من الأحداث ما قد لا يشهده نصف قرن أو قرن كامل من القرون السابقة، وهذا هو بالفعل ما حدث.

لقد تسلم حسني مبارك الحكم والاتحاد السوفيتي لايزال في عنفوانه، ولم نكن سمعنا بعد عن جورباتشوف أو سياسة البروسترويكا، ولم يكن قد مضي أكثر من عام علي استلام الرئيس ريجان الحكم في أمريكا، ومن عامين علي صعود مسز تاتشر إلي الحكم في بريطانيا، أي لم يكن عهد الليبرالية الجديدة قد بدأ بعد علي أي نحو جدي، ناهيك عن سقوط حائط برلين...إلخ،

ثم سقوط دول شيوعية دولة بعد أخري بما فيها الاتحاد السوفيتي نفسه، خلال عهد الرئيس مبارك قام صدام حسين بالهجوم علي الحكم الإسلامي الجديد في إيران، ثم هجم علي الكويت واحتلها وانسحب منها، وانقلبت أمريكا من صديقة لصدام حسين إلي عدوة والرئيس مبارك مازال في الحكم.

عندما جاء الرئيس مبارك إلي الحكم كانت الحرب الأهلية اللبنانية مازالت محتدمة، والملك حسين كان يحكم الأردن، وحافظ الأسد يحكم سوريا، ثم حدثت أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ والرئيس مبارك لايزال في الحكم، شهد صعود حركة laquo;مكافحة الإرهابraquo; وتوجيه السهام إلي العرب والمسلمين بدلاً من الشيوعيين، هكذا جاء الرئيس ريجان وذهب، والرئيس بوش الأب وذهب، والرئيس كلينتون وذهب، ثم الرئيس بوش الابن وكاد يذهب، كل هذا والرئيس مبارك قابع في مكانه، فالرؤساء والملوك يأتون ويذهبون إلا الرئيس مبارك، فياله من رجل.

ولكن دلائل كثيرة تشير إلي أن عصر مبارك أصبح قريباً جداً من نهايته، نحن نتمني للرجل بالطبع طول العمر، ولكنه أصبح، بالمعايير المصرية علي الأقل، رجلاً طاعناً في السن، والأهم من ذلك أن كل شيء يدل علي أن التمهيد قد بدأ لنقل السلطة منه إلي غيره، بما في ذلك التعديلات الدستورية الأخيرة، بل وربما كان الاعتزال قد بدأ بالفعل دون أن يعلن علي الناس،

وربما كان تشكيل حكومة أحمد نظيف في صيف ٢٠٠٤، أثناء وجود الرئيس مبارك للعلاج في ألمانيا، هو بداية هذا الاعتزال الفعلي، دون أن نخطر به، فأي وقت أنسب من الوقت الحالي لتأمل عصر الرئيس مبارك بأكمله؟

***

والحقيقة أن الرئيس أنور السادات ترك للرئيس مبارك في ١٩٨١ تركة ثقيلة جداً، سواء في الاقتصاد أو السياسة، ففي الاقتصاد، ترك السادات عبئاً ثقيلاً جداً من الديون الخارجية لم تعرف مصر مثله قبل السادات، ولا حتي في عهد الخديو إسماعيل، كما ترك مصر وهي تعاني من معدل مرتفع جداً من التضخم لم تعرف مصر مثله أيضاً في تاريخها الحديث، وكذلك ترك السادات ما يسميه الاقتصاديون laquo;اختلال الهيكل الاقتصاديraquo;، ويقصد به علي الأخص نصيب منخفض للغاية للصناعة التحويلية في الناتج القومي والعمالة والصادرات، وارتفاع أكبر من اللازم في نصيب الخدمات والمواد الأولية، وهو ما يعني كياناً اقتصادياً هشاً يمكن أن يتوقف نموه لدي أي صدمة تأتي من الخارج، وعاجزاً عن توفير فرص عمالة مجزية لقوة العمل المتزايدة.

صحيح أن معدل نمو الناتج القومي كان مرتفعاً جداً عند مقتل السادات، ولكن السبب لم يكن نشاطاً إنتاجياً بقدر ما كان ارتفاع معدل الهجرة إلي دول الخليج، وإعادة فتح قناة السويس وازدهار السياحة، وهي أشياء لا تمثل نشاطاً laquo;إنتاجياًraquo; بمعني الكلمة، وشديدة الحساسية للتطورات والأحداث السياسية في المنطقة، ومن ثم معرضة للتدهور في أي لحظة.

***

ليس هنا مجال تعقب الأخطاء التي ارتكبت في عهد السادات وأدت إلي هذا التدهور الاقتصادي، هذا التدهور الذي ساعد بلا شك علي تدهور مركز مصر السياسي والضعف الذي أصاب إرادتها، وإنما نحن نرصد هنا التركة كما تسلمها مبارك من السادات، وكيفية تعامله مع هذه التركة، أما تركة السادات السياسية فلم تكن أفضل كثيراً.

لقد ترك السادات لمبارك في ١٩٨١ شعباً غاضباً بأكمله، بدليل الآلاف من المسجونين السياسيين الذين اعتقلهم السادات دون محاكمة قبل مقتله بشهر واحد، مسجونين من مختلف الاتجاهات والطوائف: مسلمين وأقباطاً (بمن في ذلك البابا شنودة الذي حددت إقامته)، يساريين وماركسيين، ناصريين ووفديين ومستقلين، من محمد حسنين هيكل إلي فؤاد سراج الدين إلي فتحي رضوان وحلمي مراد، بالإضافة طبعاً إلي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، ورجال ونساء، من صافيناز كاظم إلي نوال السعداوي...إلخ.

كانت صحف المعارضة كلها مغلقة، عندما قتل السادات، ولكن السادات ترك أيضاً وراءه جماعات إسلامية قوية، لدرجة أنها كانت قادرة علي قتل الرئيس وهو واقف وسط جيشه، كان السادات مسؤولاً إلي حد كبير عن نمو هذه الجماعات الإسلامية واشتداد قوتها لاعتقاده أنها يمكن أن تؤازره في ضرب اليساريين، ولكنه ساهم أيضاً في اشتداد غضبها وعنفها بعقده معاهدة للصلح مع إسرائيل في ١٩٧٩.

فكيف تعامل مبارك مع هذه التركة الثقيلة؟

***

شهد المصريون في علاقتهم بمبارك شهر عسل قصيراً للغاية، يبدو أنه جاء نتيجة لبعض النصائح التي أعطيت له بتهدئة الأوضاع بعد مقتل الرئيس، وأن يحاول إرضاء مختلف طوائف المعارضة حتي يستتب له الأمر (أو بالأحري حتي يستتب الأمر لناصحيه).. وقد دأب الرئيس الجديد خلال هذه الفترة القصيرة علي أن يرد علي السؤال الذي كان يوجه إليه باستمرار من المراسلين الأجانب عما إذا كان سيطبق نفس سياسة السادات أم سينتهج سياسة جديدة، بقوله: laquo;أنا اسمي حسني مبارك!raquo; وهو مبتسم ابتسامة عريضة. وهي إجابة لا تتسم، بالكثير من العمق،

ولكن الصحفيين والمراسلين كانوا دائمًا يجدونها إجابة طريفة تستدر منهم الضحك، مما شجع الرئيس علي تكرارها. وعلي أي حال فسرعان ما قنع الرئيس بعد شهر العسل القصير، بالتعامل بطريقة سلبية تمامًا مع تركة السادات، فترك جميع القرارات الأساسية laquo;ومعظم القرارات غير الأساسية أيضًاraquo; في يد تحالف بين قوي خارجية وداخلية رأت كل منها مصلحتها في هذا التحالف، ووجدت من السهل فرض إرادتها علي الرئيس.

ولكن لنبدأ من شهر العسل، لقد بدأ الرئيس، بعد أسابيع قليلة من مقتل السادات باتخاذ قرار مفرح للغاية وهو الافراج عن جميع المعتقلين السياسيين الكبار واستقبالهم في قصره، بالترحيب والاكرام الواجبين، وكأنه يعلن اعتذاره عن فظاظة الرئيس السابق.

صحب ذلك امتناع تام عن الأعمال التي كانت تستفز المصريين، كالظهور المستمر لسيدة مصر الأولي في عهد السادات، ونشر صورها باستمرار في الجرائد، وقد كان هذا اللقب laquo;سيدة مصر الأوليraquo; جديدًا تمامًا علي المصريين في ذلك الوقت، لم تعرفه مصر لا في عهد عبد الناصر ولا في عهد الملكية.

كذلك امتنع الرئيس الجديد عما دأب عليه السادات من استخدام عبارات جارحة في وصف معارضيه، كأن يصف شيخًا محبوبًا وداعية اسلاميا laquo;الشيخ كشكraquo; بأنه laquo;مرمي في السجن زي الكلبraquo;، ووصفه كاتبًا ومفكرًا مصريا مرموقًا laquo;توفيق الحكيمraquo; laquo;بالشيخ المخرّفraquo; لمجرد توقيعه علي عريضة تدعو إلي العمل علي استعادة سيناء، فضلاً عن وصفه لديمقراطيته بأنها laquo;ديمقراطية ذات أنيابraquo;، وتهديده لمعارضيه، ليس فقط بالسجن أو الفصل بل laquo;بالفرمraquo;. امتنع الرئيس الجديد عن كل هذا وبدا رئيسًا مهذبًا للغاية، كما بدا وكأن سيدة مصر الأولي الجديدة سوف تنتهج منهجًا مختلفًا تمامًا عن منهج السيدة جيهان السادات.

في فبراير ١٩٨٢ حدث حادث سعيد آخر أشاع في نفوس الاقتصاديين المصريين الأمل في أن إصلاحًا اقتصاديا حقيقيا علي وشك أن يتحقق. فقد دعا الرئيس مبارك صفوة العقول الاقتصادية في مصر، بمختلف اتجاهاتها، اليسار واليمين والوسط، إلي مؤتمر لمناقشة الوضع المتردي للاقتصاد المصري واقتراح سبل الخروج منه، عبّر كل من هؤلاء الاقتصاديين عما في قلبه علي نحو لم يكن مألوفًا طوال العشرين سنة السابقة، ولم نشهد مثله منذ ذلك الوقت: أن يجتمع كل هؤلاء الاقتصاديين الوطنيين، بمختلف انتماءاتهم وأيديولوجياتهم، في مكان واحد، ويتبادلوا الحديث بحرية حتي يصلوا إلي قرارات لا تستهدف إلا مصلحة الوطن.

عندما يستعيد المرء ذكري هذا المؤتمر سوف تدهشه السهولة التي وصل بها اقتصاديون مختلفو المذاهب إلي حلول لمشاكل الاقتصاد المصري، وسهولة اتفاقهم عليها، مما يذكر من جديد أن الذي يعطل نهضتنا الاقتصادية ليس صعوبة الأزمة، أو الجهل بالحلول الفنية المطلوبة، بل مجرد خبث الطوية وتغليب المصالح الخاصة علي المصلحة العامة.

صحب هذا عودة صحف المعارضة إلي الظهور، بل وسمح للصحف الحكومية بدرجة من الحرية لم تعرف منذ قيام ثورة ١٩٥٢، فشهد المثقفون المصريون فترة ذهبية من حرية التعبير والنقد أشاعت تفاؤلاً شديدًا بما يمكن أن تصبح عليه الحياة السياسية في مصر، وعادت أقلام كان قد قصفها السادات، فعادت إلي التألق أقلام فتحي رضوان وحلمي مراد في laquo;الشعبraquo;، وفيليب جلاب وصلاح عيسي في laquo;الأهاليraquo;، ويوسف إدريس في laquo;الأهرامraquo;، وصلاح حافظ في laquo;الأخبارraquo;... إلخ،

وعاد من الخارج كتاب كبار بعد غيبة طويلة، وكانوا قد يئسوا من السادات وأصابهم الاحباط التام من سياساته، ومن جدّه وهزله علي السواء، فعاد أحمد بهاء الدين من الكويت، ومحمود العالم وعبد المعطي حجازي من فرنسا، بل حتي سمير أمين، المفكر الماركسي الشهير، بدأ يعود إلي مصر علي فترات متقاربة، وهو الذي لم يعد إليها منذ تركها هاربًا من الاعتقال في ١٩٥٩.

وقد وقعت أنا ضحية هذا التفاؤل، فبدأت أنشر مقالات في مجلة laquo;الأهرام الاقتصاديraquo; الذي حوّلها رئيس تحريرها laquo;د. لطفي عبد العظيمraquo;، خلال فترة شهر العسل القصيرة، إلي منبر حرّ لمختلف الآراء، وحاولت في تلك المقالات أن أقيم فترة الثلاثين عامًا كلها، التي مضت علي قيام الثورة. ولكني فوجئت يومًا بلطفي عبد العظيم يقول لي بحزن، إن صحفيا وطنيا كبيرًا نصحه بعدم الإفراط في التفاؤل إذ إن الأمور أبعد ما تكون عن الاتضاح بعد ،

بل وإن هناك من الدلائل ما يشير إلي أن laquo;المافياraquo; قد نجحت في إحكام سيطرتها بعد أن أقنعت الرئيس ان يصير رئيسا للحزب الحاكم وليس رئيسا مستقلا فوق الأحزاب كلها، وأن ما شهدناه ليس إلا مجرد شهر عسل قصير، كان لابد منه في أعقاب حادث بخطورة قتل رئيس الجمهورية.

وبالفعل بدأت السماء تتلبد بالغيوم قبل انقضاء سنة واحدة علي اعتلاء الرئيس مبارك كرسي الرئاسة، ثم بدأ اليأس يتسرب إلي النفوس شيئًا فشيا من أن يحدث أي إصلاح حقيقي في السياسة أو الاقتصاد، إلي أن اكتشفنا أن تحالفاً قويا قد تم عقده بين أصحاب المصلحة في الخارج والداخل، تتعارض أهدافه تعارضًا تامًا مع المصلحة الوطنية، سواء فيما يتعلق بالسياسة الخارجية أو العربية أو الموقف من إسرائيل أو لسياسة الانفتاح الاقتصادي.

كان علينا أن نتوجس شرًا منذ أن رأينا كيف تعامل النظام الجديد مع توصيات المؤتمر الاقتصادي، فالذي حدث هو أنه بعد أن استمع الحكام إلي نصائح خبراء الاقتصاد، وتسلموا بحوثهم وتوصياتهم، وجّه النظام خالص الشكر للخبراء، وتم تسريحهم جميعًا علي وعد بأن لجانًا سوف يجري تشكيلها لتحويل هذه التوصيات إلي قرارات قابلة للتنفيذ. ثم لم نسمع قط أن مثل هذه اللجان قد تم تشكيلها أو أن هؤلاء الخبراء قد استدعوا مرة أخري للاجتماع.

فما الذي حدث نتيجة لهذا، للاقتصاد والسياسة في مصر خلال الخمسة والعشرين عامًا التالية؟