عاطف حزين

إبراهيم قرر الهجرة!

انتشر الخبر في بورسعيد بسرعة رهيبة، وغطي علي أخبار المياه الملوثة التي يشربها الناس، وعلي أخبار الشبار الجوابي الذي وصل سعره إلي عشرين جنيهًا، اهتم الناس فقط بقرار إبراهيم العجيب وأخذوا يضربون كفًا بكف ويتساءلون فيما بينهم: معقولة.. إبراهيم؟!

ولمن يعيشون خارج laquo;القطرraquo; البورسعيدي والذين لا يعرفون - بالتأكيد- الأخ إبراهيم، أقول لهم إنه كتب خمسة آلاف قصيدة في حب مصر، وإنه كان أحد أبطال حرب أكتوبر، وإنه رفض كل عروض السفر إلي الخليج، متعللاً دائمًا بجملة واحدة صارت قولاً مأثورًا يتناقله الناس: laquo;اللي يقدر يخلع جذوري من البلد دي حاجة تانية غير الفلوسraquo;.

ما أثار دهشتنا أكثر، أن الذين يقررون الهجرة يكونون غالبًا في شرخ الشباب، لم نسمع أن أحدًا تعدي الخمسين واشتعل الرأس منه شيبًا وأصبح لا يسير في الشارع إلا بعد أن يعبئ جيوبه بأدوية الضغط والسكر ثم يقرر فجأة مغادرة الوطن إلي غير رجعة!

وهتعمل إيه في مراتك وولادك يا أبو خليل؟.. إوعي تقول إنك هتسيبهم هنا وتخلع؟

سؤال وجهه إليه الحاج حسن جاره وصديقه وشريكه في نصر أكتوبر، لكن إبراهيم لم يجب عن السؤال، ليس لأنه عاجز عن الإجابة ولكن لإحساسه بأن صديق عمره يحاول إثناءه عن قراره بشتي الطرق.

كان يجب أن أذهب إليه.

أعرفه منذ زمن بعيد ، كنت حريصًا مع الكثيرين علي حضور ندواته الشعرية في حب الوطن، نشأت بيننا وشائج قوية مع احترافي العمل الصحفي، أحسست أن المساحة بيننا ستسمح لي بأن أسأل لأعرف، وتتيح له بأن يجيب ويفرغ ما في داخله.

بدايتي معاه كانت غلط فاستفزه وجودي أمامه.

قلت له: ما تيجي نحرق كل قصايدك قبل ما تسافر طالما اتضح إنك كنت بتضحك بيها علي نفسك وعلينا.

دمعة حرّي فرت من عينيه، غاص بعدها في بحيرة صمت عميقة وعندما لاحظ أنني مُصر علي عدم مغادرة بيته، رفع وجهه المطرق الحزين ونظر إلي وفي عينيه كل عبارات اللوم والتوبيخ ثم قال أخيرًا: لا أحد يفر من الوطن.. لا يمكن أن أكره مصر.. لماذا تربطون بين عشقي لوطني وقراري بمغادرته؟ قلت له: إذا لم يكن بينهما رابط، فلا مجال ولا فائدة من الجلوس إليك.. فرصة سعيدة يا أستاذ إبراهيم.

جذبني من ذراعي وأجلسني أمامه ثم اقترب مني هامسًا: هناك فرق كبير بين الأم التي تمنحك كل الحب والحنان بدون مقابل، وبين بنت الجيران التي تمنحها أموالك وجوارحك ونظراتك وكلماتكو ثم تكتشف في النهاية أنها لا تبادلك إحساسك، بل تستغلك كما تستغل غيرك.

قد تكره كل النساء بسبب بنت الجيران اللعوب، فهل ينال ذلك من مشاعرك وانتمائك لأمك؟ أبدًا فالأم هي المستثناة دائمًا وهي الحب الذي لا ينال منه شيء.

الرجل وصل إلي مرحلة الهذيان.. أحدثه عن الهجرة فيحدثني عن بنت الجيران وأمه.. نظرت إليه مشفقًا فسألني: فهمت ولا أفهمك؟

أرجوك فهمني يا أستاذ إبراهيم

اعتدل الرجل في جلسته وعاد بظهره إلي الوراء، ثم قال كلاما لن أنساه فيما تبقي لي من عمر: الوطن هو الأم التي لم تخترها، لكنك وجدتها تذوب فيك عشقًا، ووجدت نفسك تود لو تمنحها عمرك حتي تظل قوية عفية إلي الأبد، أما بنت الجيران اللعوب التي أتحدث عنها فهي مجموعة الأفراد الذين يديرون هذا الوطن، تعال نعود إلي الوراء وسوف تكتشف بنفسك أن المصريين طول عمرهم يحبون أمهم ويكرهون بنت الجيران الاستغلالية.

استثن من ذلك الفترة الأولي في حكم جمال عبد الناصر، عندما كانت الحكومة أو الدولة أو بنت الجيران تتولاك منذ لحظة ولادتك ولاية كاملة من صحة وتعليم وعمل ومسكن وكرامة وعزة، ولكن كل ذلك انتهي بحلول هزيمة ٦٧ فسقط كل شيء، وانكشف كل شيء فكره أغلبنا الرجل بأثر رجعي، ولم يتغير الأمر كثيرًا مع نصر أكتوبر الذي محاه السادات بمعاهدته مع الصهاينة.

ثم تطور الأمر بعد السادات ورفعت الحكومة يدها تمامًا عنا مع ادعائها المتكرر، بأنها تضع محدودي الدخل في عيونها.. ما يحدث يا صديقي ـ ولابد أنك تدركه جيدًا ـ أن laquo;مصر فصلت شحنraquo;.. إن بنت الجيران وضعت السم لأمي في الدسم، سمًا لا يميت مرة واحدة فيريح الأم من الآلام بل يقتلها بالتقسيط ويبعثر أشلاءها هنا وهناك.

دولة ينفق عليها مواطنوها ويدفعون أعلي رسوم جمركية وضرائب في العالم.. دولة تدعي أنها توفر الصحة مجاناً فتفاجأ بأنك تدخل المستشفي بتذكرة دخول مقابل ربع جنيه ولكنك لكي تشفي عليك شراء أدوية بمائتي جنيه، علي الأقل، دولة تدعي أنها توفر التعليم بالمجان، فإذا بك أمام مدارس حكومية لا تصلح لأداء العملية التعليمية، فيضطر المواطن إلي الذهاب إلي المدارس الخاصة وإلي الدروس الخصوصية.

دولة لكي تسافر علي طرقها الوعرة المليئة بالمطبات التي تقصف عمر السيارات عليك أن تدفع أربعة جنيهات رسم الطريق! دولة لكي تدخل دورات المياه العمومية من أجل فك حسرة عليك أن تدفع رسم دخول جنيهًا واحدًا.. ماذا أقول لك أيضًا؟

هل أتحدث عن إصابتنا بمرض التقزم فبعد أن كنا نقود المنطقة أصبحنا تابعين خانعين لدول نحن الذين laquo;نشأناها دولاًraquo; بعد أن كانت مجرد قبائل وعشائر، هل أتحدث عن الحقوق السياسية المهدرة للمواطن المصري الذي لا صوت ولا إرادة له في تقرير مصيره في اختيار من يمثله أو من يحكمه كام سنة؟

ويشرب إبراهيم جرعة ماء وقد احتقن وجهه ثم سألني فجأة:

تفتكر أمك ممكن ترجع بعد كام سنة؟

قلت له: اللي بيموت مابيرجعش يا عم إبراهيم.

فسألني سؤالاً آخر: وتفتكر بنت الجيران هتعزل إمتي؟

فقلت له: حد يلاقي العز والدلع ده ويرحل.

فقام علي حيله منهيا الحوار وهو يسألني: وتفتكر ممكن أعيش أنا وبنت الجيران في حارة واحدة؟

فقلت له وأنا أودعه: أمانة عليك يا حاج إبراهيم.. ما تقطعش الجوابات.

آخر الكلام:

عندما سئل رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن رقم المصريين الذين يعيشون خارج مصر قال: ماعرفش.. أنا مسؤول عن اللي عايشين داخل مصر.. حلوة laquo;عايشينraquo; دي!