إياد أبو شقرا



أسمح لنفسي بألا أطير فرحاً بتعيين رئيس الوزراء البريطاني المستقيل توني بلير موفداً خاصاً للجنة الرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط. فما أعرفه عنه على امتداد سنين غير مشجع، وأحسب أنه من الصعب إيجاد قيادي أوروبي laquo;أقل أهليةraquo; منه للتوسط في أزمات المنطقة المعقدة.

صديق خفيف الظل علّق لدى علمه بإسناد المهمة إلى بلير بالقول laquo;لو عدنا بالزمان إلى عام 1956 لكانت هذه الخطوة أشبه بتكليف أنتوني إيدن حل النزاع العربي ndash; الإسرائيليraquo;.

نعم، لا بد من أن يسجل لبلير نجاحه الكبير في ترسيخ أقدام حزب العمال في السلطة قرابة عقدين من الضياع، وإن كان الفضل الأساسي في إعادة بناء الحزب وبث البراغماتية في مفاهيمه يعود إلى الزعيمين السابقين نيل كينوك وجون سميث. فهما اللذان ضربا عقائديي اليسار المتشدد وقواعدهم التنظيمية فمهدا بذلك الطريق لبلير وجماعته لقطف الثمرة في الوقت المناسب.

ولا يختلف اثنان على جاذبية بلير وديناميكيته، ولا على فهمه العميق لأهمية laquo;الشكلraquo; ولو على حساب laquo;المضمونraquo; في عصر التلفزيون والفضائيات وسقوط المسلمات وانهيار الآيديولوجيات. وطبعاً يؤكد نجاحه في قيادة حزبه لثلاثة انتصارات انتخابية متتالية (لأول مرة في تاريخ العمال) أنه أتقن لعبة الإعلام والعلاقات العامة كما يجب أن تلعب...

وسواء أحب المرء بلير أو كرهه، يجب القول إن التحية الحارة التي حصل عليها في جلسته البرلمانية الوداعية من الخصوم قبل المحازبين، تثبت مزايا الرجل وlaquo;شطارتهraquo; بمعزل عن غبار laquo;غزو العراقraquo; ووحول laquo;فضيحة المناصب لقاء التبرعاتraquo; التي تورطت بها بطانته خلال السنوات الأخيرة.

ولكن مع أخذ كل هذا في الاعتبار، أتوقع أن تكون ساحة الشرق الأوسط تجربة جديدة للزعيم البريطاني السابق..

بداية، سيطل بلير الى منطقة مفتوحة على كل الاحتمالات المأساوية، بما فيها الحروب الأهلية الطاحنة. وما يحدث يومياً في العراق ولبنان وفلسطين، بالذات، يشير إلى أن المنطقة برمتها دخلت في سباق مع الفتنة، بل مع الكارثة الكبرى. وبلير من واقع ماضيه المنحاز، وهذه ـ مع الأسف ـ حقيقة لا تزيلها اللياقات الدبلوماسية، سيستقبله عدد من اللاعبين الإقليميين بتحفظ. وهذا إلا إذا كان بعض اللاعبين المجازفين يعرفون سلفاً على ماذا يراهنون، وقد laquo;رتبواraquo; أمور مطالبهم التي تبدو ظاهرياً تعجيزية.. على عكس ما يبطنون.

فالشرق الأوسط مهدّد بإقدام إسرائيل نهائياً وجذرياً على تصفية القضية الفلسطينية. وهذا واقع غدا ملموساً للجميع وعلى رأسهم laquo;الرباعية الدوليةraquo;. فهل عند المستر بلير، الذي سبق له أن عيّن اللورد ليفي laquo;صديق إسرائيلraquo; ممثلاً شخصياً له في المنطقة، مقاربة جدية ونزيهة تبعث الثقة في قلوب الفلسطينيين والعرب، وتقطع الطريق على الاختراق الإيراني القوي؟

والشرق الأوسط مهدد بنزاع إسلامي ـ إسلامي خطير على صعيدين قومي وعقائدي. فثمة مَن يذهب اليوم إلى حد القول إن العرب غلبوا الفرس وفتحوا بلادهم تحت راية الإسلام، واليوم بعد 1400 سنة يحاول الفرس الثأر من العرب والسيطرة على أرضهم أيضاً تحت راية الإسلام. ثم إن الناحية العقائدية تأخذ أبعاداً غير مسبوقة بعد بروز التيار التكفيري... مكفراً كل من يختلف معه حتى داخل المذهبين الكبيرين، السنة والشيعة. فهل بمقدور بلير ومن يمثلهم إدراك هذا الواقع المتفجر الذي يقتات من مشاعر الإحباط وسياسة التهميش والاستخفاف وصولاً إلى الإلغاء؟ هل بمقدوره التغير وهو الذي كان جزءاً من laquo;حرب على الإرهابraquo; سيئة التصور والتخطيط والتنفيذ... حيث أفرطت باستخدام العصا من دون أن تجرّب التلويح بالجزرة!

والشرق الأوسط، ذو الأهمية النفطية والاستراتيجية، صار بالرغم منه ربما laquo;ميداناًraquo; مفتوحاً للعبة الأمم. فكيف سيرسم بلير، يا ترى، حدود تناقض المصالح بين أعضاء laquo;الرباعية الدوليةraquo;؟ وكيف سيوفّق بالذات بين مواقف موسكو إذا بقيت ملتزمة بسياسات حلفائها التكتيكيين، وتخبط واشنطن في طروحاتها الفوقية أمام خلفية الانهيارات والمآزق القاتلة في العراق ولبنان وفلسطين؟

بلير ذو الرصيد المتواضع عربياً آت إلى المنطقة بجعبة بريطانية حافلة.

فكثيرون قبله أسهموا في رسم خرائط ولاءاتها وكياناتها.. ومتاعبها.

كثيرون من مختلف المستويات وفي مختلف المواقع... كاللورد دوفرن واللورد كتشنر واللورد كرومر واللورد كيرزون وlaquo;لورنس العربraquo; وغيرترود بل ولورنس أوليفانت وهربرت صامويل والسير برسي كوكس والكابتن شكسبير والجنرال أللنبي والجنرال سبيرز والسير مايلز لامبسون..

كلهم أسهموا في كتابة تاريخنا المشرق والمؤلم، وها نحن بانتظار وجه آخر.. بالرغم منه ومنا.