علي سعد الموسى
اضطر سماحة المفتي العام أن يكون الأسبوع الماضي على الصفحات الأولى لبعض الصحف كي ينفي توجيه سماحته الدعوة لبعض الحاخامات الإسرائيليين لحضور المؤتمر العالمي لحوار الأديان الذي تزمع الرياض استضافته تلبية لدعوة ولي الأمر، خادم الحرمين الشريفين. والذي قرأ تصريح سماحة المفتي سيدرك بالطبع حالة العتب التي كان عليها سماحته وهو ينفي الدعوة في وجه إشاعات رخيصة رائجة، وسيدرك بعدها أننا بالفعل نعيش أزمة ثقة مقصودة من بعض الصغار من شتى الأطراف والمدارس التي تقتات على الإثارة وتستبق الأحداث بالأخبار الرخيصة.
أولاً، فولي الأمر عندما اقترح الفكرة كان يدرك بالطبع دلالة الجمع من كلمة الأديان ويعرف تماماً أنها أضلاع المثلث الثابت في الأديان السماوية الثلاثة، ويدرك مثلما يدرك كل ذي لب أن المسلمين اليوم على حافة مواجهة مع الحراك الأممي لهاتين الديانتين المقابلتين، اليهودية والنصرانية وبالتالي فإن مبادرة زعيم شعبي مقبول في عمقه الديني، مثل خادم الحرمين الشريفين، لا بد أن تكون مظلة شاملة لكل أطراف الخلاف وإذا لم يأخذ العقلاء مسؤولية إنقاذ البشرية من صراع الأديان، فإن الطرف الأضعف في الحلقة هو من سيدفع الثمن الأكبر. نحن الحلقة الأضعف، وضعفنا يبدأ من أنفسنا بكل البراهين، ثم إن هذا ليس اليوم لي بالقضية.
ثانياً: ومثلما أن المسيحية كلها ليست بصورة المحافظين الجدد، فإن اليهود أيضاً وكما قال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي في مقابلته للشرق الأوسط يوم الأربعاء الماضي، ليسوا مجرد الصهيونية. وحين قامت في وجه القرضاوي ثائرة لندن وهو يزورها آخر مرة قبل سنوات لم يقف معه أكبر من عمدة لندن، السير ليفنجستون، الذي استقبله في مبنى البلدية ذاته الذي أقفله في وجه جورج بوش، ثم كان آخر من ودعه في مطارها كبير حاخامات لندن من اليهود ولكم أن تعودوا للمقابلة وبقية القصة. ومثلما أيضاً أن المسيحية ليست وجهاً واحداً، وكذا اليهودية ليست كل الصهيونية الخالصة، فنحن أيضاً لسنا جميعاً صورة مختلفة أخرى لتنظيم القاعدة. والمؤسف أن جريرة الشواذ والأقليات في الأديان تأخذ الأغلبية بأرجلها إلى حافة المواجهة. القصة النشاز دوماً تحتل الخبر الذي تصطبغ بسلبياته كل الأغلبية الصامتة. بضعة نفر من مجاهدي البرجين في غزوة مانهاتن توزعت كل الدنيا على أنها الصورة السعودية ثم دفعنا ثمناً كبيراً وهائلاً لتحسين الإطار وما زلنا نجتهد حول إعادة ألوان الصورة ولولا حكمة ومصداقية زعيم مثل عبدالله بن عبدالعزيز لكانت النواتج أكثر كارثية وكان قدراً جميلاً أن يتزامن زلزال سبتمبر مع شخصية كاريزماتية في مثل شخصه.
ومرة ثالثة فإن حضور رجالات الأديان للحوار، لا يعني في المطلق حواراً يستهدف أرضية واحدة مشتركة، مثلما أنه وكما أشار بالأمس مقال رئيس التحرير لا يستهدف حواراً عقدياً ولا يمكن أن يكون حواراً للأسلمة أو النصرنة أو التهويد. وبعد ألف وأربعمئة عام من مسيرة البشرية مع الإسلام لابد أن يظهر للسطح كل زبد الخلافات في الرؤية فنحن اليوم، للأسف الشديد، لم نعد بصدد الأدبيات الأخلاقية الأساسية التي تركها لنا المصطفى الكريم - صلى الله عليه وسلم -، بقدر ما نعالج إرثاً ضخماً من مسيرة المدارس المختلفة التي تراكمت في تفاسير وفقه النصوص الأصلية، وهو أمر لمن يدركه يحتاج إلى حوار داخلي جاد فعشرات المدارس والملل الإسلامية تصطدم ببعضها البعض في تناقض حاد فكيف يكون الوضع مع الآخر، إن كان الوضع بهذا التباين المشين داخل إطار المدرسة الواحدة؟
ثم إننا لن ننكر أبداً أن بعض المسلمين لعوامل كثيرة، جلها داخلي وبعضها خارجي، لم يعودوا اليوم مجرد خطر على بعضهم البعض، بقدر ما أصبحوا خطراً على المنظومة الكونية والإسلام في كامل البراءة من فعل بعض أتباعه. تذكروا للدلالة فقط، أن ما يربو عن 150 سعودياً نشرت أسماؤهم بالأمس من مخدوعي مخدع نهر البارد وكل فرد منهم كان سيذهب قنبلة موقوتة إلى أي مكان يمكن أن تتخيله على وجه الأرض. هؤلاء مجرد قائمة واحدة من بين عشرات القوائم والخلايا اليقظة أو النائمة ولكم أن تكونوا معهم بين خيارين: إما أن تقبلوا بهم تعاطفاً ومقصداً، وهو خيار محسوم، وإما أن تدركوا أن كل اسم وقائمة وخلية تعمل على تشويه صورتكم وديانتكم. من هنا كانت دعوة ولي أمر هذه البلاد لمؤتمر حوار من أجل المصارحة والتعاون بين الأديان وهي نظرة تقوم على مبدأ خيار المصالح العليا المرسلة لمستقبل هذا الدين وأهله.
وخلاصة القول، أن العالم المتقارب المسطح ذاك الذي صار شارعاً واحداً تتشابك فيه المصالح وتنعدم فيه الحدود وتتكسر من حوله الحواجز، لم يعد عالم الأمس الذي يزدهر به أدب الرحلات والاستكشاف. والذي يظن أن مجرد دعوة يهودي أو مسيحي لحوار حالة في ثلاثة أيام سيكون بدعاً أو خطراً غير مسبوق على ثقافة خالصة نقية سيكون بالطبع مخطئاً فهؤلاء لن يكونوا أول اليهود المستكشفين ولا آخر النصارى القادمين. مخطئ جداً من يظن أن المقصود بالدعوة هم حاخامات حائط المبكى مثلما هو مخطئ من يظن اليوم أن مدينة واحدة على وجه الأرض لا تجول فيها كل الأديان ولا تنتشر في شوارعها كل الملل والنحل.
التعليقات