محمد عبد الجبار الشبوط

سبق أن قلت في اكثر من مناسبة أن ليس للدولة وجود عياني في الخارج. انما تتمثل الدولة بعناصرها الاساسية، من شعب ووطن وما الى ذلك، كما تتمثل في مؤسساتها كالبرلمان وغيره.
الدولة مفهوم او فكرة تتجسد في مظاهر خارجية كثيرة، من دون ان يعني ذلك ان الدولة هي هذه المؤسسات او المظاهر المادية حصرا.
الدولة توجد في الذهن قبل ان تتأسس مظاهرُها وتجلياتُها في الخارج. وحين يجلس المختصون من اجل كتابة الدستور، فانهم في الواقع ينطلقون من صورة قبْلّية للدولة، موجودة في اذهانهم وعقولهم، ويحاولون تجسيدها في الدستور، الذي يكون بمثابة خريطة لبناء الدولة في الخارج، بالضبط كما يفعل المهندس حين يضع تصميما لمبنى او جسر او ما شابه ذلك.
الدولة توجد في ذهن الانسان/ المواطن. وهذا الانسان المواطن إما ان يكون حاكما او محكوما. ويجمع الاثنين عنصرُ الانتماء الواحد الى الدولة الواحدة.
هذا الانسان يؤمن بالدولة في عقله وذهنه وروحه، ويؤمن بالانتماء اليها، ويعتز بهذا الانتماء، ويؤمن بضرورة احترام الدولة والولاء لها والقيام بواجباته ازاءها، بما في ذلك التقيد بقوانينها، والحرص على أموالها، والاخلاص في العمل لها.
اذا تحقق هذا الوجود الذهني للدولة صح ان نقول ان الدولة موجودة، حتى قبل ان توجد مؤسساتُها وقوانينها، ومظاهرُها المادية الاخرى. لكن اذا لم توجد الدولة في ذهن المواطن، حاكما كان ام محكوما، صح ان نقول ان الدولة غير موجودة، حتى لو وجدت مؤسسات ومظاهر خارجية تنسب عادة الى الدولة. وحين توجد هذه المؤسسات في الوقت الذي ينعدم وجود الدولة في ذهن المواطن، فان هذه المؤسسات والمظاهر تفقد قيمتها وطعمها ودورها، وتصبح كمثل غيمة الصيف، لا تحمل ماء، او laquo;كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاraquo;. كمثل مجلس نوابنا الآن!
وجود الدولة في ذهن المواطن، إذن، متوقف على وجود المواطن نفسه، سواء كان حاكما أو محكوما. حين لا يوجد المواطن، لا توجد الدولة. والمواطن ليس الفرد البيولوجي، انما هو الكائن الاجتماعي الذي يخلقه الوعي والارتباط والتعاون والتطوع والالتزام والثقافة السياسية الوطنية. وحين تنعدم هذه المستلزمات لا يكون الناس الا افرادا مشتتين، لا يربطهم رابط ولا يجمعهم جامع. حين تنعدم هذه المستلزمات ينعدم المواطن، وباختفاء المواطن تختفي الدولة. لذا تتمثل اولى الخطوات العملية الحقيقية لبناء الدولة في ايجاد المواطن، في تحويل الافراد الى مواطنين فعّالين، يزدهر وجودُ الدولة في اذهانهم، ويتجسد في اعمالهم وممارساتهم وعلاقاتهم، بما في ذلك علاقاتهم التنافسية للوصول الى السلطة، او الفوز بثقة الناس في التمثيل والنيابة.
زعمت في ما مضى من مقالات، وما زلت أزعم، ان التنافس السياسي الدائر في العراق الآن، على السلطة وغيرها، يدور في ظل غياب الدولة، بمعنى عدم وجودها في ذهن الفرد، حاكما كان ام محكوما. وحين يدور صراع سياسي في ظل غياب دولة، فانه سوف يفتقد المنطق، والقواعد، والقوانين، وسوف يتحول الى laquo;مصارعةraquo; حرة منفلتة من كل شيء، سوى حرص كل laquo;مصارعraquo; الى القضاء على خصمه، والفوز بأكبر قدر ممكن من laquo;الجوائزraquo;.
نحتاج الآن الى ضبط الصراع والتدافع والتنافس، بالعمل على ايجاد الدولة العراقية المدنية الديمقراطية الحديثة في ذهن الانسان، حاكما او محكوما، قبل أي شيء آخر.