احمد المرشد

يبدو ان الهدف الأمريكي من تشديد فرض العقوبات الاقتصادية ضد إيران وهو السعي نحو رفع معنويات خصوم النظام الإيراني بالداخل، قد بدأ يؤتي بثماره المرجوة ويحقق نجاحا نوعا ما على الأرض بما يثير ذعرا في نفوس القيادات الإيرانية السياسية والدينية. ويستدل بهذا من واقع غضب قائد الشرطة الإيرانية الجنرال اسماعيل احمدي مقدم، بإعلانه فى خطبة الجمعة قبل الأخيرة: laquo;إن قوات الداخلية ستتحرك ضد الذين يريدون استخدام العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على إيران لإثارة اضطرابات وإضرابات وقلاقل داخليةraquo;. هذا التحذير لم يكن مألوفًا لدى الإيرانيين من قبل، فهو الأول تقريبا لمسؤول إيراني رفيع المستوى سواء أكان سياسيا ام أمنيا، وهو أول تحرك من نوعه أيضا للسلطات الإيرانية ضد خصومها السياسيين في الداخل لتحذيرهم من مغبة التفكير في استخدام العقوبات الاقتصادية لإثارة قلاقل وسط الجمهور. السلطات الإيرانية لجأت الى تسمية هؤلاء المحرضين المفترضين بـ laquo;جنود الأعداء عبر التسبب في اضطرابات اقتصاديةraquo;.. سعيًا لإرهابهم من تحريض جموع الشعب الى العصيان المدني. ويعترف مقدم وهو يعتلي منبر المسجد، بأن الأعداء نجحوا في شن حرب نفسية عنيفة ضد الجمهورية الإسلامية، في اعتراف ضمني آخر بتأثير العقوبات نفسيا على الإيرانيين.
مسألة سعي واشنطن لمد خصوم النظام الإيراني بالمعنويات اللازمة لتنظيم عصيان مدني يقود أركان هذا النظام، لم تكن ظاهرة قبل فرض حزمة العقوبات الأخيرة في يونيو الماضي. خاصة وان المسألة ndash; اي العقوبات الاقتصادية ndash; شهدت تباينا في المواقف الرسمية الإيرانية. فمثلا الرئيس الإيراني احمدي نجاد اعتاد على التقليل من شأن هذه العقوبات، بل على العكس من ذلك توقع ان تؤدي الى تعزيز اقتصاد بلاده وإنها لن تؤثر على تصميمها على مواصلة برنامجها النووي. ويتفق مع نجاد في هذا مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي، بان الشعب والقيادة الإيرانية سيجهضون العقوبات، لتكون غير ذات جدوى.
هذا الموقف الذي خفض من أهمية تأثير العقوبات في حزمتها الأخيرة، قابله منطق مضاد، وقاده الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني. فالعقوبات في رأيه هي بمثابة laquo;عدوان ممنهجraquo; لم تواجهه إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979. رافسنجاني لم يقف عند حد تعريف القضية ومخاطرها، وانما حذر من مغبة تجاهلها وعدم التعامل معها بجدية بالغة. ولم يكن رافسنجاني وحيدا في هذه الرؤية التي ناصره وأيده فيها مسؤول على درجة كبيرة من الأهمية وهو علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى والمسؤول السابق عن البرنامج النووي. فهو يعتقد ان العقوبات ستؤثر على نطاق واسع على بلاده وتسبب متاعب لإيران.
وكما سبق وأسلفنا، فان معنويات الشعب الإيراني خاصة جموع المعارضة للنظام السياسي هناك، هو المسعى المهم للإدارة الأمريكية حاليا. وأرادت واشنطن ربط هذا المسعى laquo;اقتصادي المورد وسياسي الهوىraquo;، بمواجهة أخرى مع إيران، لتفتح بابا جديدا في ملف المواجهة السياسية. وهو فرض عقوبات على طهران بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، لأول مرة في تاريخ المواجهات بين البلدين، ولتقول الولايات المتحدة للمرة الأولى أيضا في تاريخ النزاع: laquo;انها ستقف مع هؤلاء الإيرانيين الذين يريدون إسماع صوتهم للعالم.. وانه على الحكومة الإيرانية احترام حقوق شعبهاraquo;.
ورغم زخم التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الإيرانية، لم يكن رد إيران على هذا التدخل بالقوة المتوقعة، بل استخدمت طهران سلاحا آخر وهو التشويش على الجماعات المعارضة باتهام جاهز دائما في الأدراج. وهو تلقي أموالا من أعداء البلاد لشن حرب ناعمة على القيادة.. فإيران استخدمت ردا او اتهاما تخرج به في الغالب كافة الأنظمة الثورية، وينحصر في اتهام جماعات المعارضة المعادية للثورة بتلقي تمويلا من الخارج، لتبدأ بعدها حملة اعتقالات مبررة امنيا وسياسيا ولزج الخصوم في غياهب السجون، في إشارة وتحذير لبقية المعارضين بالتزام السكون وعدم التحرك سياسيا ضد الحكومة.
وإذا كانت أمريكا تستخدم العقوبات الاقتصادية بمفهوم سياسي للنيل من عزيمة القيادات الإيرانية التي تلعب مع العالم لعبة laquo;القط والفأرraquo;.. وإذا كانت أيضا قد حققت نجاحا في هذا المضمار باعتراف الإيرانيين أنفسهم، فهي ndash; اي أمريكا ndash; تكذب على نفسها عندما تتحدث عن نجاحات حققتها في مجال حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما كان سببا في فرض العقوبات الاقتصادية على إيران. فعلى سبيل المثال، يقول بي جي كراولي مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون العامة ان بلاده حققت على مدار فترة لاثني عشر شهرا المنصرمة نجاحات كثيرة في مجال السياسة الخارجية، وأشار تحديدا الى نجاح المخطط الأمريكي بالحصول على إجماع عالمي لتبني قرار عقوبات دولية من مجلس الأمن ضد كوريا الشمالية، لتواصل الولايات المتحدة ضغطا باتجاه تطبيق العقوبات حتى يتحقق التقدم المطلوب في خفض السلاح النووي. ولم يكتف بي جي كراولي بهذا البيان، بل زاد بان بلاده تبنت رؤية عملية في مؤتمر حظر الانتشار النووي في مايو الماضي بجعل العالم خاليا من الأسلحة النووية مع تشديد عمليات التفتيش والالتزام والاعتراف باتفاقية laquo;ستارتraquo; الجديدة.. وان المؤتمر الذي استضافته واشنطن أسفر عن نتائج واضحة تقوي الدعائم الثلاث للاتفاقية وهي حظر الانتشار النووي ونزع التسلح والاستخدام السلمي للطاقة. وهذا الانجاز الكبير الذي تحدث عنه كراولي، يرى انه يثبت صواب جهود بلاده لوقف انتشار الأسلحة النووية مع السعي نحو السلام والأمن لعالم خال منها.
هذه الحرب الأمريكية، يقابلها من الطرف الإيراني حرب أخرى ضد المعارضين او من تطلق عليهم خصوم وأيدي الأعداء في الداخل.. ولم تكن حرب الانترنت والفيروسات سوى مضمار حرب أخرى بين الطرفين، خاصة بعدما أعلنت طهران ان جميع الأجهزة الأمنية تؤمن رقابة تامة على الإنترنت، ولن تسمح بتسريب أية معلومة تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني ولا تخريب هذه الأنشطة، في إشارة الى ما تواجهه إيران أخيرا في مجال حرب الانترنت، خاصة وان فيروس laquo;ستوكس نتraquo; لا يزال يهاجم الأنظمة المعلوماتية الصناعية في إيران، حيث تعطل حتى الآن حوالي 30 ألف جهاز كومبيوتر. ويبحث الفيروس في أجهزة الكومبيوتر، عن برنامج لشركة سيمنز الألمانية يستخدم لمراقبة أنابيب النفط والمنصات النفطية والمحطات الكهربائية والمنشآت الصناعية الأخرى. وتقضي مهمته بتعديل تشغيل بعض الأنشطة للتسبب في التدمير المادي للمنشآت المتضررة. واغلب الظن، ان هذا الفيروس هو الذي تسبب بشكل أساسي في تأخير افتتاح محطة بوشهر النووية التي ستدخل الخدمة قريبا، لكن المسؤولين الإيرانيين نفوا تأثر المحطة بالفيروس، حتى لا يعطوا لأمريكا وإسرائيل اهمية، في ظل تردد أنباء بأن خبراء المعلومات الإسرائيليين وراء إرسال هذا الفيروس الى إيران. ولم يكن الفيروس laquo;ستوكس نتraquo; سوى مواجهة جديدة بين الغرب وإيران لإجهاض طموحاتها النووية بأشكال عديدة، منها المفاوضات ومنها سلسلة العقوبات التي فرضت عليها، والتي استهدفت قطاعات المال والطاقة. وكان آخر هذه العقوبات تلك التي فرضتها الولايات المتحدة الأسبوع الماضي وشمل بعضها ثمانية مسؤولين إيرانيين بتهمة خرق حقوق الإنسان، في إشارة إلى حملة القمع التي شنتها السلطات الإيرانية ضد الاحتجاجات التي انطلقت في أعقاب الانتخابات الرئاسية في يونيو (حزيران) 2009 والتي اتهمت فيها المعارضة الإيرانية الحكومة بتزويرها لصالح الرئيس الإيراني احمدي نجاد.
وأخيرا.. يبقى تساؤل مهم: laquo;ما هي حدود القوة الأمريكية للتعامل مع إيران.. وهل تقف عند فيروس انترنتي او تمويل لجماعات المعارضة.. ام تتعداها الى التوجه العسكري؟raquo;.