أحمد يوسف أحمد

في كلمته في الجلسة الافتتاحية لقمة سرت العادية في مارس الماضي أشار عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية إلى quot;التحركات الإقليمية النشطة من دول تشاركنا في المنطقةquot;، وإلى المصالح المشتركة وتلك المتعارضة التي تكتنف العلاقة بين العرب وهذه الدول لاسيما تركيا وإيران، وكذلك إلى المجال الأفريقي الذي يتداخل معنا، وفي هذا السياق اقترح إطلاق quot;منطقة للجوار العربيquot; يتحدد أعضاؤها من الدول التي سبقت الإشارة إليها. ولاشك أن الأمين العام كان يستشعر حساسية العلاقات العربية مع بعض الدول فاقترح نظاماً للأولويات، بحيث يبدأ إنشاء هذه المنطقة بتركيا وتشاد التي ينص دستورها على أن اللغة العربية لغة رسمية لها، أما إيران التي أشار الأمين العام إلى تفهمه قلق البعض منا إزاء عدد من مواقفها فقد أكد ضرورة الحوار معها، وعلى ضوء هذا الحوار ونتائجه يمكن أن تتبلور خطوات دعوتها للمشاركة في هذه الرابطة الإقليمية. واستبعد الأمين العام بطبيعة الحال إسرائيل طالما بقيت متمسكة بصورتها أنها دولة فوق القانون وتسير في الاتجاه المعاكس لاتجاه السلام.

لم تتخذ قمة سرت العادية في حينه قراراً تقييميّاً بشأن المبادرة، فلا هي رفضتها ولا هي رحبت بها أو ثمنت فكرتها عاليّاً، وإنما أشارت قرارات القمة في حينه إلى مطالبة القادة الأمين العام بإعداد ورقة عمل حول المبادئ المقترحة لسياسة جوار عربية، والآلية المناسبة في هذا الشأن بما يضمن تطوير الروابط والتنسيق في إطار رابطة جوار عربية على أن يتم عرضها على الدورة العادية التالية لمجلس الجامعة الوزاري في سبتمبر تمهيداً لعرضها على القمة الاستثنائية العربية التي عقدت منذ أيام. ويفهم من نص هذا القرار أن مبدأ الرابطة واسمها ليسا مرفوضين في حد ذاتهما وإنما العلة في التفاصيل التي ستظهر في ورقة العمل المشار إليها، وعلى ضوء المناقشات في المجلس الوزاري.


غير أن مداولات قمة سرت الاستثنائية عادت لتناقش الفكرة من حيث المبدأ. صحيح أن اقتراح إنشاء الرابطة وفقاً لهذه المداولات quot;نابع من شعور بتآكل الدور الإقليمي للنظام العربي في محيطه ومركزهquot; فيما يتصاعد دور دول إقليمية أخرى، وصحيح أيضاً أن أهداف المبادرة نبيلة وأنها تسعى لتحقيق مصلحة عربية لكن ثمة ملاحظات ترد عليها، وأولى هذه الملاحظات يتعلق بتوقيت طرحها، ذلك لأن طرح المبادرة يأتي في ظل غياب فاعلية النظام العربي، ومن ثم لابد من quot;معالجة المعوقات والإشكالات التي تعترض قيام نظام عربي فاعل وقادر على التعامل مع دول الجوار ككتلة متجانسة وموحدةquot;. وصحيح أن غياب الدور العربي الفاعل والمؤثر خلق فراغاً استراتيجيّاً يتم استغلاله من كثير من الدول المجاورة، غير أنه لابد من تفعيل النظام العربي. أما الملاحظة الثانية فتنبع من طبيعة العلاقات المتوترة بين بعض الدول العربية ودول مجاورة، ومن الواضح أن الهاجس الإيراني مسيطر في هذا الصدد، وله مبرراته القوية بطبيعة الحال.

والحقيقة أن الحجج السابقة يمكن مناقشتها وأول ما يقال في هذا الشأن هو اعتراف أصحاب هذه الآراء بأن غياب فاعلية النظام العربي في حد ذاته يخلق فراغاً استراتيجيّاً يهدد بمزيد من اختراق النظام العربي، ومن ناحية ثانية لماذا لا تثار الحجة الخاصة بالتوقيت في شأن التفاوض مع إسرائيل، فإذا كانت الدول العربية تعاني من الانقسام عموماً فإنها تعاني منه بدرجة أكبر فيما يتعلق بسبل إدارة الصراع مع إسرائيل، ومع ذلك فإن النظام العربي يعطي الضوء الأخضر للتفاوض مع إسرائيل دون جدوى منذ سنوات. بل إن الموقف الرسمي لهذا النظام من تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، والذي تلخصه المبادرة التي أقرتها قمة بيروت 2002 يشير إلى أنه بمجرد تلبية إسرائيل المطالب العربية المتضمنة في المبادرة فإن علاقات طبيعية كاملة ستسود بينها وبين كافة الدول العربية، ولم يثر أحد في حينه أو في أي وقت من الأوقات أن هذه العلاقة مع إٍسرائيل يمكن أن تضر النظام العربي في ظل غياب فاعليته. وكذلك فإن النظام العربي قد فقد هذه الفاعلية على أسوأ الفروض منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي عندما اختلُف حول سياسة التسوية السلمية التي اتبعها الرئيس السادات، وعلى أحسن الفروض منذ بداية العقد الأخير من ذلك القرن عندما أقدم صدّام على احتلال الكويت، وانقسم العرب يومها حول هذا الحدث وتداعياته كما لم ينقسموا من قبل وربما تكون تداعيات هذا الانقسام ما تزال حاضرة بيننا حتى الآن، وبعدها تمت محاولات كثيرة لتفعيل النظام العربي دون جدوى، فهل ننتظر إلى الأبد كي يمكن لنا النظر في علاقات الجوار العربي بغض النظر عن مبادرة الأمين العام وقبولنا أو رفضنا لها؟ ثم إن الاتفاق على غياب فاعلية النظام العربي يعني ترك إدارة العلاقات مع دول الجوار للتحركات المنفردة للدول العربية، وهذا أخطر. وهو أمر حادث بالفعل.

أما توتر علاقات العرب ببعض دول جوارهم فهو قول حق، وبالتحديد في شأن العلاقات العربية- الإيرانية، وثمة موضوعات شائكة تكتنف هذه العلاقات على رأسها الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية ورفض إيران اللجوء إلى القضاء الدولي في هذا الصدد، والتغلغل الإيراني الراهن في العراق وغيره، والتصريحات من حين لآخر ضد بعض الدول ثم التعلل بأن تلك التصريحات والكتابات قد أسيء فهمها أو حرفت ترجمتها أو أنها تعبر عن آراء فردية، ناهيك عن المشروع الإقليمي لإيران في المنطقة والذي من شأنه إن نجح أن يغير من معادلات كثيرة فيها، ولكن الأمين العام كان متحسباً سلفاً لهذه المسألة واقترح البدء بحوار مع إيران تبنى على نتائجه دعوتها إلى الرابطة، وهو ما يعني أن عدم دعوة إيران للانضمام إلى الرابطة وارد إذا لم تكن نتائج الحوار مرْضية.

ويبقى أخيراً أن ثمة تعطشاً لتنفيذ هذه المبادرة من قوى عديدة في بعض دول الجوار quot;الصغيرةquot; التي تجد فيها ملاذاً ومصلحة، وربما تأتي تشاد على رأس قائمة هذه الدول، وهي دول لا يمكن أن تمثل حال انضمامها إلى رابطة مع العرب أي تهديد باختراق النظام العربي، بينما قد يؤدي إسقاطها من الاهتمامات العربية إلى خضوعها بالكامل لقوى كبرى تتعارض مصالحها مع المصالح العربية، ولاشك أننا مطالبون بالاهتمام بهذه الدول بالإضافة إلى اهتمامنا بدول إقليمية كبرى مثل تركيا وإيران وإسرائيل.

انتهت قمة سرت الاستثنائية إلى تشكيل لجنة وزارية مفتوحة العضوية برئاسة رئيس القمة لمواصلة دراسة الفكرة التي أصبح اسمها وفقاً لقرار هذه القمة quot;منتدىquot; الجوار العربي، وذلك بالاستعانة بفريق من الخبراء السياسيين والقانونيين والاقتصاديين، مع مطالبة الدول الأعضاء بمواصلة تزويد الأمانة العامة بمرئياتها واقتراحاتها في هذا الشأن، وتكليف اللجنة بتقديم تقرير عن أعمالها للقمة القادمة. ولاشك أن تشكيل اللجان آليةٌ متبعة لوأد الأفكار أحياناً، ولقد شكلت لجنة لدراسة قرار قمة الإسكندرية في سبتمبر 1965 بإنشاء محكمة عدل عربية أي منذ قرابة نصف قرن، ولم تنشأ المحكمة بعد، مع أنها لم تكن فكرة الأمين العام في حينه وإنما تعتبر تطويراً مطلوباً بنص الميثاق، فهل يمكننا بعد ذلك كله أن نطمئن إلى علاقات عربية سليمة مع دول الجوار؟