يوسف نور عوض


ظل نيلسون مانديلا معتقلا على مدى سبعة وعشرين عاما في جزيرة ' روبن' وهو يطالب بحقوق شعبه الذي اضطهدته الإدارة العنصرية للبلاد في ذلك الوقت. وعندما تحقق لمانديلا النجاح وخرج من معتقله لم تمتلىء نفسه بالحقد بل قدم صورة عالية من صور التسامح الإنساني ظل نموذجا يشاد به في جميع أنحاء العالم.
وبفضل تلك السياسة الحكيمة تنعم دولة جنوب أفريقيا الآن بهذه الدرجة العالية من الاستقرار، وعلى الرغم من هذا الدرس العالي الذي قدمه 'نيلسون مانديلا ' فما زال هناك قادة أفريقيون يفكرون بعقلية عفا عليها الزمن، ويتحركون في إطار شعارات لم تعرف طريقها إلى الواقع العملي، ويبدو ذلك في طبيعة الصراع الدائر في جنوب السودان، وهو صراع لا يخضع لأي أساس سليم من أسس الفكر، إذ ما زال القادة في كلا الجانبين يتعاملان معه في ظل غياب كامل لرؤية تحدد نوعية هذا الصراع وكيفية الوصول إلى وسائل حلها، ويكتفي الطرفان بالمناورات التي لن تحقق في نهاية الأمر ما يطمح إليه السودانيون.
ولا ننكر هنا أن شعب جنوب السودان قد تعرض لظروف قاسية منذ أن نالت البلاد استقلالها، ولكن هذه الظروف لم تكن نتيجة اضطهاد كما ذهب إلى ذلك الكثيرون بل كانت نتيجة مقاومة لحركة التمرد بقوة السلاح، في وقت كان من الممكن استخدام وسائل أفضل، وهذا الواقع لا يحتم أن تكون تلك المواجهة سببا لإلغاء كل وسيلة أخرى لحل المشاكل العالقة بين الشمال والجنوب، ولا بد هنا أن نتوقف عند ما قاله العقيد معمر القذافي في مؤتمر القمة الأخير، فقد قال الرئيس الليبي إن الصراعات الانفصالية قد لا تكون محدودة في مناطقها، وهي قد تنتشر في مناطق أخرى كالعدوى، وأشار بذلك إلى استفتاء جنوب السودان واحتمال أن يؤدي إلى انفصال يعرض فكرة التوحد التي تنشدها القارة الأفريقية بأكملها للخطر، ويجب هنا أن نؤكد أن المشكلة التي يثيرها استفتاء جنوب السودان لا تنحصر في الرغبة السياسية عند أبناء الجنوب أو النزعات التي تعتمل في صدور بعض النخب الجنوبية الراغبة في السلطة، بل تتجاوز ذلك إلى حقيقة أنها تؤسس واقعا عنصريا على أرض السودان، ذلك أن الصراع يدور بين من لا يقبلون بغير تسمية أنفسهم عربا ومسلمين وأفارقة، وهو صراع يتنكر لكل الحقائق الإثنية والتاريخية التي تؤكد أن شعب السودان هو مزيج من الثقافات والأعراق ولا يستطيع أن ينسب نفسه لعرق محدد أو ثقافة محددة، وهذا واقع تخضع له جميع الدول العربية المجاورة.
والغريب أن هناك بعض الساسة الشماليين الذين يتولون مناصب رفيعة لا يتنبهون لخطورة هذا الموقف كما ظهر ذلك من خلال حديث الأستاذ أحمد إبراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني في السودان الذي قال إن المؤسسات الدستورية في البلاد لن تتأثر إذا ما حدث انفصال في جنوب السودان، وإن الوضع لن يستدعي إجراء انتخابات مبكرة أو تعديلات دستورية مؤكدا أن المؤسسات ستستمر في العمل لمدة خمس سنوات قادمة، فأي مؤسسات دستورية يتحدث عنها الأستاذ الطاهر؟ هل هي المؤسسات التي سمحت بتفتيت القطر أم تلك التي تعتقد أن ذهاب الجنوب يزيح عبئا عن نظام الحكم لكي يتفرغ لبناء دولته؟
الحقيقة التي تجاهلها الأستاذ الطاهر هي أن المؤسسات الدستورية القائمة ليست وليدة نظام ديمقراطي طبيعي بل هي امتداد لنظام انقلابي، آثر أن يتسلم السلطة بواسطة القوة العسكرية من أجل تطبيق أيديولوجية محددة لم يستطع أن يضعها على أرض الواقع حتى الآن بكونها لم تتحقق في أي بلد آخر من بلاد العالم العربي، فلماذا تتحقق في السودان؟ هل لمجرد أن البعض يعتقدون أنهم من أصول عربية خالصة تختلف عن الأصول التي ينتمي إليها أبناء الجنوب؟
ذلك هو جوهر المشكلة التي لا يريد أحد حتى الآن أن يخاطبها بموضوعية من أجل الوصول إلى مخرج من الأزمة التي تواجهها البلاد في هذه المرحلة.
ولا نقول هنا إن المشكلة تكمن في الشمال وحده، لأن هناك أيضا الكثير من أبناء الجنوب الذين تعميهم مصالحهم الخاصة ورؤيتهم الضيقة عن مشاهدة الواقع السوداني بصورة أفضل، فقد جاء في الأخبار أن نائب رئيس الجمهورية الجنوبي ورئيس حكومة الجنوب سلفا كير ميارديت طلب من مبعوثي مجلس الأمن الذين زاروا السودان أخيرا أن يرسل مجلس الأمن قوات لحماية الحدود بين الشمال والجنوب قبل إجراء الاستفتاء المقبل، وهو بالتأكيد يعلم أن مجلس الأمن والولايات المتحدة الأمريكية يسعيان لتفكيك السودان، وبالتالي فإن طلب مثل هذه القوات ليس فقط لحماية الحدود بل لتمكين الانفصاليين من تحقيق أهدافهم في جنوب السودان، وكان 'سلفا كير' نفسه قد صرح من قبل أنه لن يصوت لصالح الوحدة، وبالطبع لماذا يصوت كير لصالح الوحدة إذا كان الانفصال سوف يجعله رئيسا للجمهورية.
والغريب أن وزير الخارجية 'علي كرتي' أبلغ مندوبي مجلس الأمن أن الشمال سوف يحترم نتيجة الاستفتاء إذا لم تحدث تدخلات خارجية، ولا يعرف ما المقصود بذلك لأن التدخلات الخارجية قد حدثت والعالم كله يؤيد الاستفتاء ليس لأنه سيوضح رغبة سكان جنوب السودان بل لأنه سوف يحقق الانفصال.
وفي الوقت ذاته تبدو القضية التي تشغل رئيس الجمهورية عمر حسن البشير هي فقط قضية الاتفاق على الحدود بين الشمال والجنوب، ولا شك أن ذلك أمر هام حين يطرح خيار الانفصال على المستوى نفسه الذي يطرح به خيار الوحدة، ولكن إعطاء الجنوبيين حق خيار الانفصال هو خطـأ استراتيجي ما كان يجب السماح به، ليس تنكرا لحقوق الجنوبيين بل لأن السودان بلد موحد وما كان ينبغي أن يفكر في تقسيمه من منطلقات عنصرية، وهنا لا بد أن نقول إن السودان ليس نسيجا وحده في تنوعه العرقي والثقافي ذلك أن الولايات المتحدة - التي تشجع تقسيم السودان من هذه الزاوية - هي نفسها دولة قامت على التعدد العرقي، فهل يعقل أن تجرى استفتاءات من أجل تقرير المصير في الولايات المتحدة؟
والغريب أن ما يجري في السودان لا يحرك ساكنا في العالم العربي، إذ لا تتحرك الجامعة العربية من أجل محاصرة هذا الموقف ولا يتحرك كذلك الاتحاد الأفريقي الذي يدعو إلى الوحدة بين دول القارة، فهل يعقل أن يدعو الاتحاد إلى القارة بينما هو يرى بلدا كبيرا مثل السودان يمزق دون أن يجرك ساكنا.
وينطبق هذا القول على مصر أيضا، وأعلم أن هناك حساسيات كثيرة بشأن مصر سواء كان ذلك في داخل السودان أم في بعض الدول الأفريقية، ولكن هل ينكر أحد أن من أكبر المتضررين من انقسام السودان هي مصر، بكون الانفصال سوف يفرض بالضرورة اتفاقية جديدة لتقسيم مياه النيل وهي اتفاقية قد لا يتضرر منها شمال السودان الذي يستطيع دائما أن يعتمد على سيل وافر من مياه الأمطار وتلك مزية لا تستمتع بها مصر، فلماذا إذن تغمض مصر عينيها عما يجري في جنوب السودان؟
ولا نريد هنا أن نحصر القضية في إطار مصالح ضيقة قد يكون هناك اختلاف حولها، بل نريد أن نضعها في إطار سليم، هو لماذا يكون هناك انفصال في جنوب السودان؟
إذا كان الأمر هو تحقيق قدر أكبر من الفعالية الإدارية فإن ذلك من الممكن تحقيقه عن طريق الحكم الذاتي الفدرالي، وهو ما يتمتع به الجنوب حاليا بدليل أن لديه حكومة لا تخضع لإملاءات الشمال، وهذا الواقع يمكن أن يستمر في إطار الدولة الموحدة، وأما في حالة حدوث الانفصال وهو أمر مؤكد إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فإن مشكلات كبرى ستنشأ وقد يؤدي الأمر إلى حرب أهلية لا يمكن التحكم في مجرياتها لأن أعداد الجنوبيين في شمال السودان كبيرة ولا يمكن التحكم فيها بقرارات سياسية، وليس هناك ضمان في ألا تتحدى هذه الأعداد أي قرار يصدر ضد مصالحها، وقد لا يقتصر الأمر على ذلك إذ سيشجع الانفصال حركات انفصالية أخرى وهو ما سيسلم السودان إلى الفوضى، والرأي عندي هو أن يكون هناك حزم يبقي على هذا البلد موحدا ولا يعرضه للانفصال الجالب للفوضى.