عبد الاله بلقزيز
منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ،2001 وازدهار مقولة صدام الحضارات، وانطلاق حملات التشهير بالإسلام والتنكيل بالمسلمين في المجتمعات الغربية، وما رافق ذلك من حروب امبريالية جائرة في افغانستان والعراق ضد ldquo;إرهابrdquo; وُصِمَ بأنه من صميم ثقافة المسلمين ونظام القيم في الإسلام . . .، تَوَاتَرَ استعمال عبارة ldquo;تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في الغربrdquo; في أوساط عربٍ كثر، رسميين وغير رسميين، وساسة ومثقفين وإعلاميين، في سياق مسعى من هؤلاء جميعاً إلى تمييز أنفسهم عمن أدينوا بوصف الإرهاب من المسلمين، وإلى اجتراح سياسة دفاعية تكف عن دينهم ومجتمعاتهم أذى الاتهام ذاك وتبعاته السياسية . ولم تلبث العبارة أن فشت في الخطاب السياسي والإعلامي العربي - الرسمي والخاص - وانتشرت في الناس انتشار النار في الهشيم، لترسم سقف السياسات المطلوبة لمواجهة حملة التشهير وجدول أعمالها .
في الأثناء، وعملاً بقاعدة ldquo;تصحيح صورة الإسلام والمسلمينrdquo;، نشرت كتب، وعقدت عشرات الندوات والمؤتمرات للحوار بين الإسلام والغرب، ونشرت مئات المقالات في الصحف، وبثت مئات البرامج التلفزيونية، وأرسل مئات الدعاة إلى الخارج، وترجم القرآن الكريم إلى لغات عدة ووزعت منه مئات الآلاف من النسخ مجاناً في أمريكا وأوروبا . . . الخ، وكان مدار ذلك كله على إعادة تقديم صورة عن الإسلام يرضى عنها أهله وتجد المقبولية لدى الآخر . ولقد كان الجهد هذا ضخماً ومنسقاً، شارك فيه جمهور عريض من رجال الدولة والدعاة والمفكرين والصحافيين والسفارات، وصُرِفت فيه مبالغ مالية طائلة نهض بها إنفاقاً الدول والبنوك الإسلامية وجمعيات الدعوة والمتمولون الكبار . وبدا بحجمه عملاً غير مسبوق، على الصعيد الدعوي، في تاريخ المجتمعات الإسلامية الحديث، كما كان من حسن حظه أن صادف متغيرات صبت في رصيده، وفي رأسها الثورة الإعلامية والمعلوماتية والطفرة النفطية في السنوات السبع الأخيرة، فوفر له ذلك القدرة على المخاطبة والقدرة على الانفاق على مشروع يتطلب المال . على أن بعض ذلك الجهد ldquo;التصحيحيrdquo; ذهب إلى أبعد من ذلك، وغالباً تحت ضغط إملاءات خارجية، فانصرف إلى إنجاز جملة من المهمات المترابطة رامياً إلى التجاوب مع المطلوب منه دولياً من جهة، وإلى كبح جماح اندفاعة القوى الدينية المتطرفة من جهة أخرى، ومن ذلك أن القسم الأعظم من النظم القائمة في البلاد العربية والإسلامية دخل في سياسة مواجهة مفتوحة مع المؤسسات المالية والخيرية والدعوية التي ترعى قوى التطرف الديني وتوفر الدعم لنشاطاتها، أو تسهم في نشر أفكار التعصب وكراهية الآخر، فأقفل الكثير منها أو فرضت الرقابة المالية على تحويلاته بهدف تجفيف ينابيع التطرف، وهي إجراءات رافقتها حملات أمنية منظمة على الجماعات الدينية المتطرفة أو تضييق شديد على نشاطاتها الدعوية والثقافية والإعلامية . ثم إن من ذلك ما جرى من إعادة النظر في البرامج المدرسية للتكوين، وخاصة المتعلقة بالمواد الدينية والتاريخ في تلك البرامج، وما كان من تعديل وحذف فيها أثار حفيظة كثيرين ودفعهم إلى اتهام تلك السياسات بالنيل من مبادئ الدين وتزوير حقائق التاريخ إرضاء ل ldquo;القوى الصليبيةrdquo; .
وليس يعنينا، في هذا المقام، أن نتناول بالتقييم مجمل هذه السياسات التي جرت في الداخل والخارج، تحت عنوان ldquo;تصحيح صورة الإسلام والمسلمينrdquo;، وماذا عساها تكون قد احرزته من نجاحات في هذا المضمار، بمقدار ما يعنينا التنبيه على خطأ الفرضية التي حكمتها كسياسات وما تزال تحكم الكثير من وجوه التعبير عنها حتى اليوم . وليست الفرضية التي نقصد، والتي تحتاج إلى نقد، سوى عبارة ldquo;تصحيح صورة الإسلام والمسلمينrdquo;، وما تنطوي عليه من دلالات أو تفيده من إيماءات .
يفترض الانطلاق من فكرة ldquo;تصحيح الصورةrdquo; أن ثمة تشويهاً لها يحتاج إلى تصويب وتشذيب، هذا معنى متقرر سلفاً بمقتضى عبارة التصحيح، فلا موجب لبيانه أو شرحه . لكن السؤال البديهي في مثل هذه الحال هو: من المسؤول عن هذه الصورة المشوهة: الغرب أم المسلمون؟ إذا كان الغرب مسؤولاً، وذلك ما يذهب إليه قسم كبير من المسلمين يسيئون به الظن دائماً، فهل تقبل الصورة في وعيه تصحيحاً من طريق إجراءات تحسين صورة المسلمين وتلميعها بالإعلام والدعاية والمؤتمرات وشروح الدعاة عقيدة الإسلام للغربيين؟
هل ذلك يكفي أو يشكل استراتيجية جديرة بالانتهاج؟ أليس حسن صورة المسلمين من حسن أحوال دولهم ومجتمعاتهم ومكانتهم في الإنتاج والابداع العلمي في العالم؟ أليس مما يقتضيه ذلك أن تتوقف الحروب الأهلية وظواهر الفقر والتهميش وانتهاكات حقوق الإنسان والميز الصارخ ضد المرأة والفساد السياسي والمالي في مجتمعاتهم؟ ثم من ذا الذي عليه ان يقدم للغرب صورة أخرى عن الاسلام كدين يدعو إلى العقل والتسامح والحوار: الدعاة المسؤولون عما لحق بصورة الإسلام أم المفكرون؟ أجهزة الإعلام والدعاية أم مراكز الدراسات والجامعات؟
أما إذا كان المسلمون هم المسؤولون عن تشويه تلك الصورة بأقوالهم وأفعالهم، كما يقول الغربيون، فإن علاج الإعضال لا يكون بالإجراءات الأمنية والرقابية والتضييق على الحريات، ولا بتغيير برامج الدين والتاريخ في المدارس لتستجيب لمعايير من يأمر بذلك، وإنما بثورة ثقافية تبدأ من نشر الفكر العقلاني في المدارس والجامعات، ورفع القيود عن البحث العلمي في ميادين العلوم الإنسانية والدراسات الإسلامية والتراثية، وإفساح المساحات في الإعلام للفكر التنويري أسوة بجيوش الدعاة والمتنصبين للفُتْيَا في شؤون الدنيا والدين، إذ الأفكار لا تقارعها إلا الأفكار .
من دون هذه الخيارات الشجاعة، لن يكون من معنى لعبارة ldquo;تصحيح صورة الإسلام والمسلمينrdquo; غير تقديم الاعتذار للغرب وإقامة الحُجة علينا من أنفسنا .
التعليقات