محمد عارف
quot;حمامات دم حقيقيةquot;. ثلاث كلمات لّخص بها quot;جوليان أسانغquot;، رئيس موقع quot;ويكيليكسquot; حصيلة 400 ألف وثيقة سرية للجيش الأميركي تتضمن شهادات شهود عيان على الجريمة، أو شركاء للقائمين بها، أو مخبرين يعملون لصالح قوات الاحتلال. شهادات ميدانية مبتسرة شُطبت منها الأسماء والمعلومات التي قد تُعرِّض للخطر الأشخاص، أو المؤسسات المعنية. ومن السذاجة إلقاء مسؤولية الحمامات الدموية على المقاومة، أو الإرهاب، أو على العراقيين والعرب quot;المتخلفينquot; وquot;ناكري الجميلquot; أو الإيرانيين. فأول مقومات السياسة الأخذ بالحسبان ردود أفعال البشر، والبيئة المحيطة، وتصرفات الخصوم. وماذا في توقيت الكشف عن السجلات للتأثير على نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، أو على تشكيل حكومة بغداد؟ أليست السياسة، ليس فقط بمفهومها الدارج، بل برؤيتها الفلسفية، ترى ليالي العالم والعراق بكل شيء حُبالى؟
مائة وتسعة آلاف قتيل في العراق، أكثر من نصفهم مدنيون، أي ما يعادل خمسة أضعاف قتلى الأفغان. ولم يذكر الحقيقة قائد قوات الاحتلال الأميركي الجنرال تومي فرانك عندما قال quot;نحن لا نحصي الجثثquot;. فالأميركيون يحصون أكثر من أي شعب آخر، وسجلات قواتهم في العراق تصنف 66 ألف قتيل مدني، ونحو 4 آلاف quot;عدوquot; قتيل، وأكثر من 15 ألف قتيل من قوات الأمن العراقية، و3771 قتيلاً من القوات الأميركية وقوات التحالف. ونحو 35 ألف قتيل في النزاعات الطائفية. وكان ديسمبر 2006 أسوأ الشهور حيث قتل فيه 2700 شخص في بغداد وحدها. ويعرض موقع quot;ويكيليكسquot; خرائط تفاعلية تبين إحداثيات سقوط 114 قتيلاً في يوم 20 ديسمبر في quot;شارع حيفاquot;، وquot;المنطقة الخضراءquot; وأحياء quot;السيديةquot; وquot;البياعquot; وquot;العاملquot; وquot;الغزاليةquot;.
وتغطي السجلات الأميركية الفترة بين يناير 2004 ويناير 2009، ومع ذلك فهي أعلى من مجموعة quot;إحصاء جثث العراقيينquot; البريطانية، التي تغطي الفترة من بداية الغزو حتى الآن، وفيها عدد القتلى نحو 91 ألفاً. وعند احتساب 12 ألف قتيل مدني في السنة الأولى من الغزو، إضافة إلى أكثر من 3 آلاف مدني تجاهلتهم السجلات الأميركية قتلوا في الفلوجة خلال معركتي أبريل ونوفمبر 2004 يصبح المجموع العام نحو 125 ألف قتيل. ويظل الرقم أقل كثيراً من تقديرات مجلة quot;لانسيتquot; الطبية وquot;جامعة جونزهوبكنزquot; والبالغة 650 ألف قتيل.
ويعترف البنتاغون بصحة السجلات لكنه يعتبر معلوماتها غير صحيحة، وغير موثقة، وهذا غير صحيح. فمعظم السجلات تتضمن شهادات مدعمة، ويستند بعضها إلى تقارير طبية، وأشرطة فيديو. وكيف يمكن التستر على استخدام طائرات مروحية لقتل المدنيين؟ سجلات quot;ويكيليكسquot; تعرض حادثة فظيعة استخدمت فيها طائرة quot;أباتشيquot;، قتلت في عملية واحدة، يوم 16 يوليو 2007، أكثر من 26 عراقياً. وفي حادث آخر قتلت طائرة quot;أباتشيquot; عراقيين رغم رفع أيديهما بالاستسلام!
ويتكون كل سجل من بضعة سطور، وأرقام ورموز وكلمات محذوفة. ولا يستغرق عادة سجل فاجعة عائلة عراقية سوى خمسة سطور، كما في شهادة جنديين أميركيين في دورية ليلية في سبتمبر 2005 على الطريق الرئيسي بين مدينتي المسيب وبغداد، أطلق المجند quot;الراميquot; إشارة تحذير ضوئية لسيارة قادمة، ولوّح لركابها بالسلاح، لم تتوقف، أطلق عيارات إنذار، و100 صلية رشاشة أتوماتيكية. قُتل سائق السيارة وزوجته في المقعد الأمامي، وأصيب طفلاهما الجالسان في المقعد الخلفي بجروح في الفخذ والساق. سجل آخر عن اقتراب سيارة من نقطة تفتيش على طريق المسيب بغداد، لم توقف السائق الإشارات الضوئية، وأطلقت عليه 15 صلية رشاش، قتل طفلان، وأصيب بجروح طفل ثالث، وأمهم سائقة السيارة.
عشرات السجلات عن قتل أفراد عوائل عراقية في سياراتهم، أو في نقاط التفتيش، أو داخل منازلهم. شهادة دورية أميركية على طريق الصقلاوية غرب بغداد مساء 29 نوفمبر 2004 عن سيارة اقتربت من خلف قافلة سيارات عسكرية، إشارات تحذير بالأيدي... لم تتوقف. أطلقت النيران على النافذة الأمامية.. انقلبت السيارة في مياه القناة... خرج رجل منها راكضاً، أبلغت الدورية بوليس الصقلاوية، جاءوا، أخرجوا السيارة من الماء وانتشلوا جثث ستة غرقى، بينهم امرأتان ورضيع و3 أطفال أعمارهم بين 5 و8 سنوات. بضع كلمات في سجل مقتل راكب دراجة هوائية في الفلوجة يوم 26 مارس 2004، يحمل كيساً في سلة الدراجة quot;لم يبطئ سرعته عند الإشارة إليه، quot;قُتل... ولم يُعثر على متفجرات في الكيسquot;.
ولا حدّ للخيال في تعذيب ضحايا لا حول لهم ولا قوة: تكبيل الأطراف والأفواه بالأغلال، عصب العيون، الضرب بسياط سلكية، وقضبان معدنية، وعصى خشبية، وهوائيات تلفزيون، وأنابيب مياه مطاطية، وأحزمة وسلاسل محركات. عسكريون عراقيون يمارسون، بملابسهم الرسمية شتى صنوف التعذيب؛ تعليق الضحية من رسغيه، أو رفعه من كاحليه، أو شدّ الجسم ملوياً على نفسه من أسفل إلى أعلى، وحرق مواضع من الجسم بفلفل حار، أو سجائر مشتعلة، أو أحماض كاوية، وكماشات معدنية، ومياه ساخنة.
ويستخدم الأميركيون تعذيب العراقيين للعراقيين، كسلاح للقهر والترويع، ولحمل الأسرى والمعتقلين على الاعتراف. وكان الهدف الحقيقي لتحويل شؤون الأمن للعراق توكيل العراقيين بعمليات التعذيب. وأصدر الجيش الأميركي ما سماه quot;أوامر مجزأةquot; تقضي بعدم اتخاذ إجراءات بشأن التبليغات عن قيام عسكريين عراقيين بتعذيب معتقلين عراقيين. وبعض سجلات التعذيب قد تكون ملفقة، إلاّ أن معظمها مدعمٌ بشهادات طبية، أو شهود عيان عسكريين أميركيين. والقائمون بالتعذيب من جميع صنوف القوات المسلحة العراقية؛ جنود، ضباط شرطة، حرس سجون، وحرس حدود. وتمارس معظم أعمال التعذيب ضد شباب.
quot;وسجلات quot;ويكيليكسquot; الخطوة الأولى لمقاضاة المسؤولين عن حرب كلفت الولايات المتحدة نحو 4500 قتيل و32 ألف جريح، وثلاثة تريليونات دولار، وكراهية لا يُسبر غورها في قلوب ملايين العرب والمسلمين.
التعليقات