غسان الإمام

دعاني طارق عزيز إلى قضاء أيام معه في الريف العراقي. كانت الدعوة إحراجا له ولي! الواقع أنها كانت laquo;مقلباraquo; من laquo;مقالبraquo; الصديق الظريف الراحل وليد أبو ظهر. فقد اقترح فجأة على laquo;أبي زيادraquo; وضع كتاب عن laquo;حزب البعثraquo;. ورشحني أنا لأقوم بكتابته.

كنا نحن الثلاثة، في جلسة دردشة، في منزل السفير العراقي في باريس عام 1980. كان همي يتركز على معرفة الأسباب الحقيقية التي دفعت صدام إلى التورط في حرب عبثية مع إيران آنذاك. ولم يكن الحزب موضوعا يشكل أهمية. فقد أحكم صدام سيطرته عليه في العام السابق. وصفى جسديا الجناح المطالب بوحدة مع سورية. وأحال رئيسه أحمد حسن البكر على التقاعد الإجباري، ليموت بصمت غما وكمدا.

بعد أسابيع قليلة، جاءني من بغداد هاتف يحدد موعد اللقاء مع طارق. لم أذهب. ولم أعتذر. كان تأليف كتاب دعائي عن موضوع ثانوي، في ظروف الحرب، بمثابة انتحار إعلامي. ولم يكن طارق ليسمح لي بأن أدون في الكتاب ما أعرف عن نشأة الحزب ومسيرته، لا سيما أن تقديري لأبي زياد قد هوى إلى الحضيض، عندما قاطعني خلال الجلسة تلك، ليقول مؤنبا بحزم: laquo;شنو عفلق؟! لا. لا تخطئ. الأستاذ صدام هو المنظر. وهو المفكر. وليس عفلقraquo;.

كيف صار صدام، وليس عفلق، هو المنظر. وهو المفكر، عند حزبي ملتزم كطارق عزيز، أو سعدون حمادي؟

السبب، ببساطة، كون السياسة في العالم العربي علاقة قوة. لجأ عفلق إلى صدام. أذل رجل القوة رجل السياسة. وضعه في قفص ذهبي. جرده من مسيحيته. من سلطته. مكانته. أعلن إسلامه!. كان الحزب بحاجة إلى رجل القوة، أكثر من حاجته إلى عفلق. طارق. سعدون...

في مقابل الولاء المطلق، صعد صدام برجلي السياسة. كان بحاجة إلى شرعيتهما الحزبية. فهما الأقدم. ثم كان بحاجة إلى laquo;شيعيةraquo; العلماني حمادي. وإلى الوجه المصقول لطارق عزيز. الوجه الغائم. وجه بلا ملامح. بلا مشاعر. وجه يجيد لسانه تحسين سمعة النظام في الخارج. نظام بلا مصداقية. بلا قلب. بلا عواطف في الداخل.

عندما عصف الخلاف بالبعث العراقي (1979) حول الوحدة مع سورية الأسد، انحاز طارق وحمادي إلى الزعيم، لا إلى القضية. لا إلى الوحدة (شعار الحزب). عندما وضع الزعيم المتهور إصبعه في عش الدبابير الإيراني الثائر، انحاز الرجلان إلى اللا منطق. إلى اللا واقع. تأخر رجل التكنوقراط حمادي، ليتقدم رجل الدبلوماسية طارق. حرك صدام البيادق. حل طارق محل حمادي في منصب وزير الخارجية (1983).

بعد إعدام عبد الكريم قاسم، ومقتل عبد السلام عارف، توفرت فرصة كبيرة لقيام ديمقراطية حقيقية في عراق عبد الرحمن عارف (شقيق عبد السلام). كاد مثقف آخر (عبد الرحمن البزاز) أن يرسي حكما مدنيا. دستوريا. ديمقراطيا. فأسقطه العسكر. أسقط صدام العسكر. وعارف. ضمن مؤقتا الشرعية العسكرية بترئيس البكر. وأسقط شريكه الانقلابي عبد الرزاق النايف (رجل الغرب). ثم اغتاله بعد سنوات. كما غيب وزير الخارجية ناصر الحاني الذي عقد الصفقة، في بيروت، بين بعث صدام والمخابرات الأنجلوأميركية.

عندما التقيت طارق في عام 1980، لم يكن الرجل مشغولا بالحزب. كان طارق آنذاك في أوج قوته. بحبوحته. رفاهيته. كان يتأهب للقيام بأضخم وأكبر دور في حياته، كما رسمه له صدام: إعادة العلاقة المقطوعة مع الولايات المتحدة منذ حرب 1967.

ولم يكد عام 1984 ينصرم إلا وطارق قد نجح بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع أميركا ريغان. غدت العلاقة سمنا على عسل: أكل العراقيون القمح والزر الأميركي. ثم توجهوا إلى ميادين laquo;حرب أميركا مع إيران الخمينيraquo; ليموتوا مع الإيرانيين موت النعاج.

آمل أن يتاح لي المجال يوما، لأروي ملابسات العلاقة الأميركية العراقية، وبالذات ما حققه طارق في مجال القروض. المنح. الهبات. المعدات التقنية العالية، بما في ذلك الكومبيوترات الذكية لرصد الأقمار الصناعية التي كانت مركزة على الجبهة الإيرانية. كانت الفرق العراقية في انتظار محكم لصد أي هجوم إيراني، تماما، كما فعل نيكسون وكيسنجر عندما زودا الجنرال شارون بالصور الفضائية لمواقع الجيش المصري. فتمكن من اختراقها في نقاط الضعف في تمفصلها.

آمل أن أروي ملابسات الصفقة التي تورطت الدبلوماسية العراقية خلالها، في السعي للحصول على ضمانات من إسرائيل شيمعون بيريس وإسحاق شامير، عبر وساطة إدارة ريغان، لعدم قصف أنبوب نفط كان صدام يعتزم مده إلى ميناء العقبة. كانت الصفقة تقضي برشوة زعماء إسرائيل بعشرات ملايين الدولارات. ثم جاءت القيادة السعودية، وبحكمة العاهل الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، فأنقذت العراق من صفقة التورط المهينة. وضع الملك فهد أنبوب النفط السعودي الذي ينقل النفط من الشرق إلى الغرب (ميناء ينبع) في خدمة نقل النفط العراقي وتصديره إلى العالم.

أقول إن إدارة بوش الأب تساهلت مع صدام. سكتت عن استعماله الغاز السام ضد إيران ومواطنيه الأكراد. استمرت في السخاء والإغداق على صدام، إلى احتلاله الكويت (1990). حتى بعد إخراجه بإذلال من الكويت، ترك بوش الأب منفذا للقوات العراقية المتقهقرة للعودة. لم يلاحقها إلى بغداد. ظن أن التمرد الكردي والشيعي كفيل بتقويض النظام من الداخل.

كانت إدارة كلينتون أشد قسوة. قصفت بغداد بالصواريخ مرارا. دبرت عدة محاولات انقلابية ضد صدام. أقول هنا أيضا إني أتمنى رواية ملابساتها، أو أن يقوم بالمهمة الأستاذ وفيق السامرائي الذي يقرأه قراء laquo;الشرق الأوسطraquo; في صفحات الرأي أسبوعيا. فقد مات ألوف الضباط والجنود العراقيين فيها.

كانت التسعينات شقاء لطارق عزيز. أقصاه صدام عن الخارجية. كان صدام بحاجة إلى وجه أقل تحديا بغطرسته لعرب الجامعة. اختار سعيد الصحاف، فكان تهجمه على العرب أكثر فظاظة. الواقع أن طارق والصحاف وحمادي يمثلون طبقة تضم عشرات ألوف الانتهازيين من رجال البيروقراط والتكنوقراط المتزلفين لسلطة الأمر الواقع في العالم العربي.

عندما فشلت محاولات إسقاط صدام من الداخل، بفضل اختراقه لتنظيمات المعارضة الشيعية والكردية المتعاونة مع أميركا، كان لا بد من التدخل مباشرة بالقوة. انتخبت أميركا رئيسا لا يقل فظاظة وتهورا عن صدام. نفذ بوش الابن المهمة. لا ضرورة للاسترسال، فالتفاصيل معروفة.

ماذا بقي على طارق أن يفعل؟ ظل مواليا في السراء. وظل وفيا في الضراء. وقف منبوذا. مستسلما. متهالكا. متوكئا على عصا أطول بقليل من سيجاره الكوبي، ليشهد لصدام. يدافع عنه. يشيد بحكمته. شجاعته، أمام محكمة منحازة.

لكن ساعة الانتقام حانت. عندما شن حزب الدعوة (حزب المالكي) حملاته ضد النظام منذ الخمسينات، ودشنها بمحاولة قتل طارق بهجوم بالقنابل في حرم جامعة المستنصرية (1980)، أعدم صدام المرجع الديني للحزب (محمد باقر الصدر) وشقيقته نور الهدى بطريقة وحشية، لا علاقة لطارق بها.

هل تجرؤ laquo;دولة القانونraquo; على إعدام طارق. لا أظن. على أي حال، ربما لم تبق لدى طارق رغبة في الحياة. فهو كما يقول الشاعر

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت، في خلفٍ كجلد الأجرب