يوسف نور عوض

إذا نظرنا إلى السياسة الخارجية المصرية وجدنا أنها مركزة في إطار محدود، إذ يندر أن تنظر مصر لواقعها السياسي نظرة إستراتيجية، فهي دائما ترى في نفسها لاعبا أساسيا في حل المشاكل خاصة إذا كانت مواقفها تجد دعما من قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، ولكني أعتقد أن مصر ستواجه في الأشهر المقبلة أكبر تحد في تاريخها، وهو احتمال أن يسفر الاستفتاء في جنوب السودان عن انفصال جنوب البلاد وإقامة دولة مستقلة.
والملاحظ هو أن مصر حتى الآن لم تعط هذا الأمر ما يستحقه من اهتمام، وكل ما فعلته قبل فترة قليلة هو أنها توجهت إلى جنوب السودان وقدمت دعما ماليا بهدف إقامة مشروعات في تلك المناطق على أمل أن تكون مثل هذه المشروعات سببا في إقامة علاقات مستقبلية حميمة بين مصر ودولة الجنوب المنفصلة، وقد رأينا في الوقت ذاته وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط يقول إن بلاده ستدعم فكرة إجراء الاستفتاء في موعده، وهو موقف ربما يخلو من التصور الاستراتيجي السليم لأنه في الوقت الذي يرضي بلدا مثل الولايات المتحدة تلح على أن يجري الاستفتاء في موعده فهو بكل تأكيد لا يخدم مصالح مصر التي سوف تتأثر إلى درجة كبيرة في السودان، خاصة أن المشكلة التي سيواجهها السودان قريبا لا تقتصر على السودان وحده بكونها تهم مصر أيضا ومن ثم يجب أن تفكر مصر مع السودان من أجل الخروج من هذا المأزق الذي تتكاتف دول أجنبية من أجل الوصول به إلى غاية لا تخدم مصالح البلدين، خاصة أننا رأينا قبل عدة أيام أن 'جون كيري' قدم خريطة طريق للحكومة السودانية تحدد كيفية الوصول إلى الاستفتاء في موعده المحدد، كما أعلنت الولايات المتحدة أنها سوف ترفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب مقابل أن يعمل على إتمام الاستفتاء في موعده، والسؤال هنا هو، هل السودان دولة إرهابية أم لا؟
فإذا كان دولة إرهابية فيجب ألا ترفع الولايات المتحدة اسمه من هذه القائمة تحت أي ظرف من الظروف، وإذا لم يكن كذلك فيجب أن تعلن الولايات المتحدة أنها تستخدم قائمة الإرهاب لأغراض سياسية وهنا سنتساءل ما الذي يعطي الولايات المتحدة الحق في أن تصنف الدول في قوائم الإرهاب مع أن معظم دول العالم تعتقد أن ما ارتكبته واشنطن من عمليات إرهابية في العراق وأفغانستان وغيرهما من البلاد يفوق كل ما عرفه الإنسان خلال تاريخه الطويل.
ولا شك أن موقف مساعد الرئيس السوداني نافع علي نافع الرافض للمبادرة الأمريكية كان مصيبا، ولكنه جاء كما يقولون في الوقت الضائع إذ هو تأخر كثيرا في وقت بدأ الجنوب فعلا في الاستعداد للاستفتاء كما بدأت الأمم المتحدة ودول العالم تحفز لهذه العملية التي يعلمون أن نتيجتها محسومة ليس لأنها تعكس إرادة شعب الجنوب بل لأنها تتم بدعم من جهات خارجية لها مصلحة في تفكيك دولة السودان، وقد رأينا في الأيام الأخيرة الرئيس السوداني يكون لجنة من أجل النظر في استفتاء جنوب السودان وقال الرئيس إن على هذه اللجنة أن تبحث في الوسائل التي يمكن بها أن يستمر السودان موحدا، والغريب أن من بين أعضاء هذه اللجنة نائب الرئيس سلفا كير الذي يرسل إشارات متناقضة، فهو في الوقت الذي يدعو فيه إلى الوحدة نلحظ أن جهوده بأكملها في جنوب السودان تتجه نحو دعم اتجاهات الانفصال. كما نلحظ في الوقت ذاته أن معظم الأحزاب في شمال السودان التي تصنف نفسها في خانة المعارضة لا تريد أن تشارك في هذه اللجنة التي كونها الرئيس السوداني، لعلمها أن الانفصال أصبح شيئا محتوما وهي لا تريد أن تشارك في تحمل المسؤولية، والمسألة في تقديري لا تتعلق بمن يتحمل المسؤولية بل تتركز أساسا في ضرورة أن يبقى السودان موحدا، ويجب هنا أن نقول إن اتفاق 'نيفاشا' الذي أوجب الاستفتاء لم يتم في ظروف طبيعية ذلك أن دولا أجنبية وفي مقدمها الولايات المتحدة كان لها هدف في إجراء الاستفتاء الذي كانت تعلم أن نتيجته هي تفكيك السودان، وهكذا فإن هذا الاستفتاء غير ملزم لشعب السودان الذي لم يقرر إعطاء الجنوبيين هذا الحق، وإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى فسنجد أن معظم الذين يدعمون الانفصال في الوقت الحاضر هم عناصر غير سودانية، بكون السودان خضع منذ أن نال استقلاله لعمليات هجرة واسعة من بعض الدول الأفريقية وخاصة كينيا وأوغندا وبالتالي فإن معظم العناصر التي تريد تمزيق السودان تنتمي إلى جماعات المهاجرين.
وقد رأينا حديثا زيارة وفد كيني إلى جنوب السودان كما رأينا يعض الكينيين يصرحون بأنه في حال انفصال جنوب السودان فإن دول شرق أفريقيا ترحب بهذه الدولة الوليدة ضمن مجموعتها ولا شك أن مثل هذه التصريحات تتنافى مع ما تدعو إليه منظمة الوحدة الأفريقية التي تسعى إلى توحيد القارة، لا إلى تفكيك دولها، ذلك أن الأساس الذي ستعتمد عليه الوحدة الأفريقية هو تماسك دول القارة بصرف النظر عن انتماءات سكانها العرقية، وإن أخطر ما تتعرض له القارة في هذه المرحلة هو أن تلعب المصالح الأجنبية الدور الأكبر في السيطرة على شعوبها. خاصة إذا كان الأساس الذي تعتمد عليه هذه المصالح هو الاختلافات العرقية، ذلك أنه لا توجد أي أسباب منطقية تلعب عليها المصالح الأجنبية في جنوب السودان سوى الاختلافات العرقية والدينية، وهي اختلافات يجب ألا يحملها الناس حالة التخلف التي يعيش فيها جنوب السودان ذلك أن هذه الحالة لم يكن سببها شمال السودان، فالشمال ليس دولة كبرى حققت درجة عالية من التقدم في الوقت الذي ظلت تهمل فيه الجنوب، كما أن الشمال لا يمتلك وحده الإمكانات التي تغير حال الجنوب، فالشمال مازال بحاجة إلى المزيد من التنمية، وقد كان الجنوب خلال الحكم البريطاني يقع ضمن دائرة أطلق عليها المناطق المقفولة التي كان يحرم على الشماليين الدخول أو العمل فيها، وحتى خلال الحكم الوطني فإن بعض العناصر قادت حركة تمرد كان من الصعب خلالها القيام بعملية التنمية إذا كانت تلك العملية أصلا هي مسؤولية الشمال، وأخيرا فإن الجنوب يحكم نفسه بنفسه حكما ذاتيا، وعلى الرغم من مليارات الدولارات التي تصب في داخله فإن حكومته لم تستطع أن تحقق التغيير الذي تطلبه من حكومة الشمال.
والمسألة في نهاية الأمر من وجهة نظري ليست مسألة مطالب يسعى الجنوبيون لتحقيقها، بل هي مشكلة بلد تفرض ظروفه الجغرافية أن يكون موحدا، خاصة أنه يواجه مشكلات تمرد في مناطق أخرى مثل دارفور وإذا لم تتحقق الوحدة بين الشمال والجنوب فسيكون من الصعب التوصل إلى سلام في إقليم دارفور، وقد يقول قائل إن دارفور بعيدة عن وادي النيل وبالتالي لا تواجه ظروف الجنوب، وهذا خطأ لأنه إذا تم الانفصال بتآمر دولي فقد تجد دارفور نفسها أيضا مدفوعة لتوحيد مواقفها مع الجنوب ضد الشمال، وهنا يجب أن نتساءل هل الهدف في نهاية المطاف هو شمال السودان؟
الإجابة المنطقية هي أن أهل الشمال مهما كانت أحوالهم فإنهم سيجدون صيغة للتعايش مع العناصر الأفريقية الأخرى، ولكن بالطبع ليس من خلال دولة سودانية قوية ،لأن ما تهدف إليه القوى الخارجية الداعمة لإسرائيل هو ألا يكون في السودان نفوذ عربي قوي حتى لا يكون دعما لمصر في أي مواجهة مستقبلية مع إسرائيل، وقد أوضحت في مقالة سابقة ان الصلح الذي أقامته مصر مع إسرائيل لا يعتبر ضمانا لعلاقات سلمية بينهما لأن إسرائيل بحسب القراءة الصحيحة لسياساتها في الوقت الحاضر لا تريد سلاما مع العرب يحقق مصالحهم وستأتي مرحلة في المستقبل يحدث فيها الشقاق من جديد بينها وبين مصر، وتحسبا لهذه المرحلة تريد إسرائيل منذ الآن أن تقضي على سائر الوسائل التي يمكن أن تتحقق بها قوة مصر، وهكذا يبدو بوضوح أن انفصال جنوب السودان هو في نهايته تهديد إستراتيجي للأمن المصري وذلك ما يستوجب أن تتخذ مصر منذ الآن سياسة تضامنية جديدة مع السودان تحقق لها مصالحها المستقبلية.