محمد جميح

كانت الحياة السياسية معطلة عند الشيعة الإثني عشرية لقرون طويلة في انتظار خروج laquo;إمام الزمانraquo; أو الإمام الغائب على اعتبار أن أي دولة قائمة قبل خروجه (عجل الله فرجه) تعد دولة ظالمة غاصبة لحق صاحب الحق، وأن أي دولة تقوم ولا يكون رأسها laquo;إمام الزمانraquo; فإنما هي امتداد لسلطان الأمويين والنواصب الغاصبين. وبعد قرون متطاولة على هذه الفكرة التي أوقعت التشيع في ورطة وجد نفسه فيها خارج دائرة العمل السياسي والمشاركة في الحياة العامة، بعد ذلك أخرج الأصوليون الشيعة فكرة laquo;نائب الإمامraquo; التي طورها الخميني بطموحه السياسي المعهود وأخرجها في ثوب laquo;الولي الفقيهraquo;. وذلك لكي يكون له دور في صياغة الحياة السياسية المعاصرة في إيران والعراق وأجزاء من العالم الإسلامي.

فعل الخميني إذن فكرة laquo;نائب الإمامraquo; وأخرجها في شكل laquo;ولاية الفقيهraquo;، والتي قامت على أساس أنه بما أن laquo;إمام الزمانraquo; لم يخرج بعد، وبما أنه لا بد للناس من إمام يسوس أمورهم الدينية والسياسية، فإن الأولى أن يقوم laquo;نائب الإمامraquo; بهذه المهمة إلى أن ييسر الله فرج الإمام الغائب.

وهكذا سارت الأمور وكان الخميني أول laquo;ولي فقيهraquo; وأول laquo;نائب للإمامraquo; في الفكر السياسي الشيعي المعاصر. والعجيب أن الخميني جعل للولي الفقيه سلطة مطلقة، وأوكل إليه معظم المهام الدينية والسياسية المنوطة بالإمام الغائب على اعتبار أن laquo;الولي الفقيهraquo; هو laquo;نائب الإمامraquo; الذي يسير شؤون المسلمين إلى وقت خروج الإمام المعصوم. وقد جعل الخميني سلطة laquo;الولي الفقيهraquo; مطلقة لأنه يستمدها من laquo;الإمام الغائبraquo; ذاته. وبما أن سلطات laquo;الإمام الغائبraquo; هي سلطات إلهية مطلقة فإن سلطات نائبه هي أيضا سلطات إلهية مطلقة. ولذلك يعد laquo;الولي الفقيهraquo; هو قائد الثورة في إيران وهو الحاكم الفعلي الذي يتخذ القرارات المصيرية كالحرب والسلم، وهو المشرع للقوانين بل إنه فوق القوانين حسب رؤية الخميني لهذا الولي. وبالتالي فإنه ليس لرئيس الجمهورية إلا الانصياع لأوامر laquo;نائب الإمامraquo; بحكم أن منصب رئاسة الجمهورية هو منصب سياسي في حين أن منصب laquo;نائب الإمامraquo; (الولي الفقيه) هو منصب ديني وسياسي في الوقت ذاته في تجسيد واضح لسيطرة الأفكار الثيوقراطية على توجهات الفكر السياسي الشيعي في نسخته الخمينية. وعليه فإن التراتبية السلطوية لدى الخمينية تتمثل في المتوالية التالية: laquo;الله ndash; الإمام - نائب الإمام/الولي الفقيهraquo;، والتي نخلص منها إلى أن سلطة laquo;الولي الفقيهraquo; مستمدة من الله تماما كما أن سلطة الإمام نفسه هي سلطة إلهية.

ولكن ماذا عن laquo;نائب الإمامraquo; عند الحوثية؟

الحوثية في اتكائها على التراث الهادوي الجارودي حتى لا نقول (التراث الزيدي) تشترط النسب الفاطمي للإمام، وهو الشرط الذي أدخله الإمام الهادي يحيى بن الحسين مؤسس دولة الأئمة في اليمن. ومعلوم من المصادر التاريخية أن الإمام زيد لم يكن يرى وجوب النسب الفاطمي أو ما اصطلح عليه لاحقا بشرط الانتساب إلى laquo;البطنينraquo;، لم يكن يرى وجوب ذلك لصحة الإمامة بدليل إقراره إمامة الخلفاء الراشدين الثلاثة قبل الإمام علي ورفضه البراءة منهم.

غير أن الهادي بعد أن استتبت له الأمور في اليمن واستطاع استغلال مسمى laquo;آل البيتraquo; أو laquo;أهل البيتraquo; استغلالا سياسيا بارعا، عمد إلى خطوته التي اشترط فيها وجوب laquo;النسب الفاطميraquo; لصحة الإمامة لا لشيء إلا لكي يضمن استمرارها فيه وفي أولاده من بعده.

وفي التاريخ المعاصر يركز بدر الدين الحوثي مرجع الحوثية (حتى لا أقول الزيدية) على قدسية laquo;شرط البطنينraquo; لصحة الإمامة في أكثر من عمل من أعماله. وهو لا يرى غضاضة في القول بأن laquo;حصر الإمامة في البطنينraquo; هو تشريع إلهي ليس لمسلم أن ينقضه ولا أن يخالفه، وما على الناس إلا الاتباع.

وفي حال انعدام وجود الإمام الفاطمي - حسب النظرية الهادوية في نسختها الحوثية - فللناس أن يختاروا واحدا من عامتهم (ولو من غير البطنين) ليسوس أمورهم إلى أن يوجد الإمام الفاطمي مكتمل الشروط. هذا laquo;العاميraquo; الذي يجوز له أن يلي أمر الناس ولاية مقيدة غير مطلقة يسمى laquo;المحتسبraquo; ويمثل laquo;نائب الإمامraquo; ولا يحق له أن يتلقب بالإمام لأن الإمامة خاصة بالبطنين في العرف الحوثي المتكئ على تراث هادوي جارودي. وفكرة laquo;المحتسبraquo; عند الحوثية تقابل فكرة laquo;الولي الفقيهraquo; عند الخمينية، فكلاهما laquo;نائب للإمامraquo;، والنائب إنما يقوم بالأمر في حالة غياب الإمام. وعلى الرغم من تقابل الفكرتين laquo;الولي الفقيهraquo; وlaquo;المحتسبraquo; عند الخمينية والحوثية فإن فروقا كبيرة تلحظ بينهما فيما يخص صلاحيات كل منهما وطبيعة ولايته.

فإذا كانت ولاية laquo;نائب الإمامraquo; عند الخمينية تعد ولاية إلهية، لأنها امتداد لولاية الإمام المهدي نفسه حتى إن laquo;نائب الإمامraquo; يعد هو القانون بل إنه فوق القانون كما صرح الخميني، إذا كان الأمر كذلك عند الخمينية، فإن laquo;نائب الإمامraquo; أو laquo;المحتسبraquo; عند الحوثية لا يحظى بمثل هذه الصفات، فهو أي المحتسب أو نائب الإمام يعد مؤقتا حتى تكتمل أهلية الإمام الفاطمي، وعندها فإنه laquo;يجب على المحتسب أن ينعزل عند ظهور الإمام، لأن الإمامة رئاسة عامة لشخص في الدين والدنيا، والفرق بين المحتسب والإمام أن الإمام يختص بأربع خصال: إقامة الجمع، وأخذ الأموال كرها، وتجييش الجيوش لمحاربة الظالمين، وإقامة الحدود على من وجبت عليه، وقتل من امتنع من الانقياد لها.. والمحتسب لا ولاية له على شيء من أموال الله - سبحانه وتعالى - ولا يجوز قبضها إلا أن يأذن أربابها، ويأمرون بذلكraquo;.

وعودا إلى الخمينية فإن صلاحيات نائب الإمام (الولي الفقيه) لدى الخميني هي صلاحيات مطلقة تشبه إلى حد كبير صلاحيات الإمام ذاته، في حين أن صلاحيات نائب الإمام laquo;المحتسبraquo; عند الحوثية الهادوية الجارودية تعد صلاحيات مقيدة. ففي حين أن ولاية laquo;نائب الإمامraquo; عند الخميني تعد ولاية دينية وسياسية، فإن ولاية laquo;نائب الإمامraquo; عند الحوثية تعد ولاية سياسية مؤقتة. ولكن لماذا هذا الفرق في صلاحيات laquo;نائب الإمامraquo; بين الخمينية والحوثية؟

السبب واضح وبسيط وهو أن الخميني في تأصيله لنائب الإمام laquo;الولي الفقيهraquo; فإنه يؤصل لنفسه، لأنه هو الذي ناب عن الإمام، ومن الطبيعي أن يعطي الخميني لنفسه سلطات مطلقة مستغلا laquo;التشيع والآلraquo; لتكريس إمامته الدينية والسياسية. وبلفظ آخر فإن الخميني عندما كان يحدد حدود ولاية الفقيه المطلقة فإنه كان يحددها وفي رأسه شخص واحد لشغل هذا المنصب الخطير، هذا الشخص هو الخميني نفسه ولذلك وسع صلاحيات المنصب لتتسع صلاحياته هو.

وأما في الجانب الحوثي فإن الحال مختلفة، إذ إن laquo;نائب الإمامraquo; عند الحوثية قد يكون من غير البطنين ولذلك وحرصا من الحوثية على إبقاء معظم الصلاحيات الدينية والسياسية فيهم فإن منصب laquo;نائب الإمامraquo; أو المحتسب جاء بصلاحيات محدودة أجملها الحوثي نفسه بقوله: laquo;أن يحتسب لدين الله، ويحمي الإسلام ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكرraquo;. ويبدو أن سلطة نائب الإمام أو المحتسب عند الحوثية هي سلطة سياسية أقرب ما تكون إلى الشورى والانتخاب الحر، في حين أن سلطة الإمام نفسه هي سلطة دينية سياسية لا دخل فيها للشورى والانتخاب الديمقراطي حسب تعبير بدر الدين الحوثي. ويمكن على هذا اعتبار المتوالية التالية معبرة عن النظرة الحوثية للإمام ونائبه:

* الله ndash; الإمام، على اعتبار أن سلطة الإمام هي سلطة دينية مطلقة مستمدة من الله وقائمة حسب أمره فهو laquo;ظل الله على الأرضraquo;

* الشعب - نائب الإمام. على اعتبار أن سلطة نائب الإمام هي سلطة سياسية مقيدة وقائمة على اختيار العامة لأنفسهم.

ولاية الإمام - إذن - إلهية دينية ثيوقراطية بينما ولاية نائب الإمام بشرية سياسية ديمقراطية وفقا للنظرية الحوثية. وإذا كان هناك من تشابه بين المهام والاختصاصات فإن مصطلح laquo;نائب الإمامraquo; عند الخمينية يشبه مصطلح laquo;الإمامraquo; عند الحوثية، بينما يتلاقى مسمى laquo;رئيس الجمهوريةraquo; عند الخمينية ومسمى laquo;نائب الإمامraquo; عند الحوثية.

ولإجمال الأمر فإن الخميني قد صير ولاية الفقيه مطلقة دينية وسياسية لأن الخميني يشكلها على مقاسه، أو يفصل ثوبا ليكون هو لابسه، بينما جعل الحوثي ومدرسته ولاية المحتسب مقيدة لأن المحتسب ليس من البطنين غالبا، وبالتالي فإن المنطق في حالة الحوثي هو إعطاء أقل قدر من الصلاحيات للمحتسب حتى لا يخرج الأمر من أيديهم، وحتى يسهل التخلص من نائب الإمام laquo;العاميraquo; حال وجود الإمام laquo;الفاطميraquo;.

ومهما يكن من أمر فإن التأمل في المسألة يوضح بلا شك قدرا غير قليل من التلاعب بالدين، والتوظيف السياسي له لخدمة أغراض فئوية أو عنصرية أو شخصية تتناقض مع مبادئ الدين القيم. إنه للأسف التفسير العنصري للدين، والخروج عليه باسمه واختصاره في الإمامة وقصر الإمامة على عنصر معين في مناقضة صارخة للدين بمفاهيمه الإنسانية المحتوى والأهداف والتي خاطبت الإنسان في ماهيته وجوهره وليس في عرقه أو لونه أو مذهبه.