حازم صاغيّة


في ما خصّ العرب وسياساتهم، هناك في مسألة ويكيليكس جانب مثير قد يكون الأهمّ. ذاك أنّ ما اعتُبر laquo;فضيحةraquo; لهذا النظام أو ذاك، وهذا البلد أو ذاك، وهذا السياسيّ أو ذاك، إنّما هو التصرّف على عكس ما يقال ويُعلن.

والفجوة بين السلوك وبين الشائع تتجسّد خصوصاً في ما يلي:

أوّلاً- يقول الشائع إنّ الصراع مع إسرائيل هو laquo;القضيّة المركزيّةraquo; للعرب. يقول السلوك إنّ هذا الصراع ليس على أجندة أحد.

ثانياً- يقول الشائع إنّ إيران laquo;دولة شقيقةraquo;. يقول السلوك إنّ مصدر الخوف الفعليّ هو من إيران ومن احتمالاتها النوويّة.

ثالثاً- يقول الشائع إنّ سياسيّي بعض البلدان يمثّلون شعوبهم. يقول السلوك إنّهم يمثّلون طوائفهم وجماعاتهم.

رابعاً- يقول الشائع إنّنا، شعوباً وحكومات، نكافح الإرهاب. يقول السلوك إنّنا ننقسم بين مكافحين له وداعمين.

القاسم المشترك بين هذه العناوين هو امتثال السياسات العربيّة للمألوف وجبنها عن تحدّيه، حتّى حين لا يعود هذا المألوف شعبيّاً. وهنا، لا تملك الحجّة الزجليّة عن laquo;مخالفة الأنظمة لشعوبهاraquo; أيّة قيمة فعليّة، ولن تكون بحالٍ سبباً لـ laquo;تحرّك الشارع العربيّraquo;. ذاك أنّ مواقف laquo;الشعوبraquo; أكثر اختلاطاً وتشوّشاً بكثير ممّا تفترضه الصورة النضاليّة البسيطة.

فالمزاج الشعبيّ في الخليج، مثلاً، يرى فعلاً، عن خطأ أو عن صواب، أنّ إيران هي الخطر، وهذا ناهيك عن أنّ laquo;الأنظمةraquo; هي الأكثر اندفاعاً في مكافحة الإرهاب الدينيّ، فيما laquo;الشعوبraquo; هي الأكثر اندفاعاً في تأييده ودعمه. أمّا في حالات أخرى كلبنان، حيث معنى الوطنيّة نفسه متنازَع عليه، فتمثيل مصالح جماعة طائفيّة بعينها هو الموقف الشعبيّ داخل هذه الجماعة.

قصارى القول إنّ المسألة أعقد كثيراً من الزجل الديماغوجيّ والشعبويّ الذي يفترضنا شعوباً منسجمة وخيّرة لا يفعل الحكّام إلاّ تضليلها وحرف إراداتها وخيانة تمثيلها لها. فـ laquo;الشعوبraquo;، وفق هذا السيناريو، تنام وتصحو على إشاعة الحدود laquo;لمكافحة العدوّ الصهيونيّ ومن ورائه الولايات المتّحدةraquo;، بينما تمضي laquo;الأنظمةraquo; في خذلان تلك الطموحات.

أغلب الظنّ أنّ ما طرحته تسريبات ويكيليكس علينا غير ذلك، وأخطر من ذلك: إنّه يتّصل بمدى التصدّع في كياناتنا المجتمعيّة والوطنيّة، بل أيضاً بمدى الكذب في لغتنا السياسيّة التي شئناها واحدة موحّدة، لكي نغطّي بوحدتها المزعومة درجة التصدّع في الواقع الفعليّ.

هنا يكمن التحدّي الأكبر الذي يبدأ علاجه باعتماد لغة أخرى تطابق واقع الحال، أو على الأقلّ، بالكفّ عن إنتاج الخرافات التي لا تلبث أن تتحوّل مادّة إجماع لفظيّ يرقى إلى مقدّس، بحيث يغدو السياسيّ أسير ما صنعه.

هكذا يكون أوّل الانتقال من عالم الفضيحة إلى عالم السياسة ببناء فضاء عامّ يقال فيه كلّ شيء وأيّ شيء، بعيداً من تهم التخوين والتكفير ومخالفة laquo;الثوابتraquo;. ولإنجاز هذا الفضاء العامّ، ولحمايته، سيجد السياسيّ العربيّ نفسه مطالَباً بإبداء شجاعة لم تُعرف عنه من قبل، لأنّه، في زمن ما قبل ويكيليكس، لم يجد نفسه مضطرّاً إلى إبدائها.