فيصل القاسم


كم كان من الأفضل لو أن الموقع أو الصحافي الذي أماط اللثام عن برقيات وزارة الخارجية الأمريكية، وفضح أسرارها ليس موقع ويكي ليكس لصاحبه الأسترالي أسانج، بل موقع أو صحافي من العالم الثالث، أو عالم الجنوب الذي يشتكي دائماً من استبداد عالم الشمال بمقدرات المعمورة. لو حصل ذلك لكان انتصاراً كبيراً للعولمة بمفهومها الإيجابي، وهو ممكن وإن كان صعباًً. فالعولمة الإعلامية ليست طريقاً باتجاه واحد كما يريدها أسيادها الأمريكان والأوروبيون، بل يمكن أن تكون مساراً في اتجاهات عديدة بفضل مرونة تكنولوجيا المعلومات، كأن يتفاعل العالم مع بعضه البعض فعلاً بدلاً من أن يبقى التدفق المعلوماتي من الشمال إلى الجنوب، خاصة إذا ما علمنا أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تنتج أكثر من خمسة وسبعين بالمائة من المادة الإعلامية التي يستهلكها العالم.
صحيح أن الإنترنت اختراع بريطاني أصلاً، إذ يعود الفضل في ابتكارها إلى مهندس الكومبيوتر الشهير تيم بيرنرز لي، لكنها غدت أمريكية الطابع بسبب تسيّد الأمريكان للثورة المعلوماتية عالمياً، فمعظم مقراتها وبروتوكولاتها وسيرفراتها وبنوك معلوماتها وكومبيوتراتها العملاقة وحتى مفاتيحها في أيد أمريكية على متن إحدى الحاملات. وصحيح أيضاً أن كل معاملاتنا على الشبكة العنكبوتية لا بد أن تمر عبر أمريكا من خلال بروتوكول إلكتروني. وصحيح أيضاً أن بمقدور الأمريكيين أن يتحكموا بالإنترنت بسهولة بفضل شركاتهم المعلوماتية الرهيبة مثل quot;ياهوquot; و quot;غوغلquot; و quot;مايكروسوفتquot;، فيمنعونها عن بعض البلدان، إلا أن أمريكا بكل جبروتها الإعلامي والإلكتروني لم تستطع أن تواجه صحافياً أستراليا وموقعاً إلكترونياً لا تتعدى تكلفة تشغيله سنوياً مبلغاً زهيداً جداً بلغة الإعلام، إذ يقول المشرفون على موقع quot;ويكي ليكسquot; إن موقعهم لا يكلف سوى مائتي ألف دولار في العام أو أكثر قليلاً. مع ذلك، فإن الموقع والفرسان القائمين عليه استطاعوا أن يهزوا عرش الولايات المتحدة وكل الدول التي تتعامل معها دبلوماسياً، وذلك من خلال نشر كم هائل من البرقيات التي أرسلها الدبلوماسيون والدبلوماسيات الأمريكيات إلى وزارة خارجيتهم من الدول التي يخدمون فيها، فأماطوا اللثام عن ملايين الأسرار السياسية والدبلوماسية التي أحرجت معظم دول العالم.
صحيح أنني قلت في مقال سابق بعنوان quot;سخافات ويكي ليكسquot; إن معظم ما نشره الموقع من وثائق تخص العالم العربي لا تعدو كونها نميمة سياسية، وإنها بمجملها تخفي أكثر مما تكشف من مصائب العرب، وإن الأنظمة العربية أسوأ بكثير مما ظهرت من خلال برقيات وزارة الخارجية الأمريكية، إلا أن هناك الآن حقيقة لا يمكن التقليل من أهميتها أبداً، ألا وهي أن الشبكة العنكبوتية خرجت عن طوق مخترعيها وسادتها وموجهيها، ألا وهم الأمريكان لتصبح كابوساً يؤرقهم ويقض مضاجعهم.
لا شك أن الإنترنت هي من إفرازات العولمة وضروراتها الاقتصادية الملحة. والعولمة ظهرت لخدمة الإمبراطورية الأمريكية أكثر من أي شيء آخر، خاصة إذا ما علمنا أن quot;العولمةquot; ما هي إلا ذلك المرادف الناعم quot;للإمبرياليةquot; التي من أهم أهدافها استعمار العالم بوسائل مختلفة ووضعه تحت سيطرتها وخدمتها. لكن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن، فهناك من هو أقوى وأذكى بكثير من كل الإمبراطوريات والإمبرياليات. من كان يتصور أن تكون الإنترنت الأمريكية التوجيه والمصدر أنجع وسيلة لتعرية السياسات الأمريكية وفضح سجلاتها السرية جداً، وكشف عورات الدبلوماسيين الأمريكيين؟
هل كان سادة الإنترنت ومشغلوها الأوائل يتوقعون زلزال ويكي ليكس؟ بالطبع لا، مع الاعتراف طبعاً بأن هناك من يجادل بأن التسريبات ربما جاءت بمباركة أمريكية لغاية في نفس يعقوب. لكن لو تركنا نظرية المؤامرة جانباً هنا، وركزنا جدلنا حول فاعلية الشبكة الإلكترونية وخطورتها واستحالة ضبطها مهما كثرت القيود والمراقبة والتشديد، لوجدنا أن الوحش انقلب فعلاً على راكبه، أو بعبارة أخرى، انقلب السحر على الساحر.
لقد حاولت المؤسسة الأمريكية الحاكمة بأهم أركانها، أي وزارتا الخارجية والدفاع وما تبعها من أجهزة استخبارات وبوليس أمريكي أن تقف في وجه الطوفان الويكي ليكسي، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً. والمضحك أن بعض أجهزة الأمن الأمريكية مارست ضغوطاً هائلة على مزودي خدمة الإنترنت الأمريكية كي تزيح موقع ويكي ليكس عن سيرفراتها. وفعلاً استجابت شركة quot;أمازونquot; الإنترنتية العملاقة للضغط فوراً، فطردت الموقع من مخدماتها، وهو بالطبع تصرف أمريكي أحمق من الحكومة ومن quot;أمازونquot;، خاصة أن الأمريكيين يتشدقون ليل نهار بضرورة إفساح المجال أمام حرية تبادل المعلومات وانسيابها عالمياً. ولا ننسى أن نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل غور هو من أطلق تسمية quot;سوبر هاي وايquot;، أي الأوتوستراد العملاق على الشبكة العنكبوتية. لكن كما نرى فإن الأمريكيين هم أول من يضع العوائق والعقبات والحواجز على ذلك الطريق الهائل والسريع لتدفق المعلومات. وقد أحسنت مجلة quot;تايمquot; الأمريكية صنعاً عندما وضعت على غلافها الأخير صورة لمؤسس موقع quot;ويكي ليكسquot; جوليان أسانج وقد غطى العلم الأمريكي فمه كدليل على القمع الأمريكي لحرية التعبير. ولا ندري إذا كانت تسريبات ويكي ليكس مجرد ذريعة أولية لخنق الشبكة العنكبوتية وضبط التدفق المعلوماتي عالمياً بحجة أنه يهدد الأمن القومي والمصالح الأمريكية في العالم. من يدري؟ لكنهم لم ينجحوا حتى الآن على الأقل، فما أن تمت إزاحة الموقع عن السيرفر الأمريكي حتى قامت شركات سويسرية باستضافة موقع quot;ويكي ليكسquot; على الفور. لا بل إنها أعطته ثلاثة عناوين إلكترونية دفعة واحدة لتسهيل عمليات الدخول للموقع.
لا أدري لم نسيت أجهزة الاستخبارات الأمريكية أن غياب الموقع عن المخدمات الأمريكية لن يمنع الشعب الأمريكي من مطالعته على سيرفر آخر، حتى لو كان في بوركينا فاسو. يا للغباء!
باختصار، فإن العتمة، كما يقول المثل الشعبي، لم تأت على هوى الحرامي، أي أن اللص كان يعتقد أنه يستطيع أن يسرق كما يشاء تحت جنح الظلام، لكن العتمة لم تكن كاملة، فانفضح أمره، ووقع في شر أعماله، وهذا ما حدث بالضبط لأمريكا في حكايتها مع الإنترنت وآخر تجلياتها المتمثلة بفيضان quot;ويكي ليكسquot; الإلكتروني. لقد أراد العم سام من الشبكة العنكبوتية أن تكون وسيلته الإعلامية والثقافية الأنجع للسيطرة على العالم، لكنه ربما لم يفكر يوماً بأن ليس كل ما تتمناه الإمبريالية تدركه. وإذا أردنا أن نفلسف الأمور أكثر قليلاً يمكن هنا أن نستعين بمصطلح quot;دهاء التاريخquot; للفيلسوف الألماني الشهير هيغل، وهي أن التاريخ تحكمه أحياناً المصادفة أو القدر الأعمى. مهما حاول الأقوياء توجيهه حسب مصالحهم.
أخيراً أرجو أن يكون ويكي ليكس انتصاراً حقيقاً للإنترنت على أربابها، وليس مجرد خديعة كبرى جديدة من إعداد وإخراج أمريكا وتقديم جوليان أسانج وشركاه!