حيدر إبراهيم علي

يطرح بعض المهتمين بالشأن العام، سؤالاً جوهرياً بصيغ مختلفة ولكن الدلالة واحدة، عن ضرورة الديمقراطية في حياة المجتمعات والشعوب العربية.. وهل الديمقراطية مطلب شعبي يقع ضمن أولويات المطالب أو حتى الأشواق العربية؟ وهل تخرج الشعوب العربية محتجة على غياب الديمقراطية أو تزوير الانتخابات؟

أم تخرج فقط احتجاجاً على مسائل وقضايا أخرى، مثل كتاب سلمان رشدي: laquo;آيات شيطانيةraquo; أو ضد الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول (ص) في صحيفة دنماركية، أو ضد استفتاء المآذن في سويسرا؟

من الواضح أن قضايا العقيدة والدين هي صاحبة الأولوية في الأجندة العربية ـ الإسلامية، ولكن النخب تدعي أن الديمقراطية مطلب شعبي، رغم أن الواقع يقول خلاف ذلك. حتى ارتفاع أسعار الخبز أو السكر يمكن أن يحرك الجماهير أكثر من تراجع الديمقراطية أو تزييفها.

وخلال الانتخابات الأخيرة في الأردن ومصر، أثار البعض سؤال أولوية وأهمية الديمقراطية في التفكير العربي والإسلامي. وفي ندوة عن المجتمع المدني العربي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت مطلع تسعينات القرن الماضي، استنتج عالم الاجتماع العربي الطاهر لبيب، أن الديمقراطية ليست مطلباً عربياً، لأن laquo;بارادايمraquo; الطاعة هو الأقوى وهو السائد في التاريخ العربي.

ومن الأخطاء التي اكتسبت انتشاراً وبعض المصداقية، الربط بين إجراء الانتخابات وبين الديمقراطية، وهذه من خزعبلات مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقه جورج بوش الابن.

فقد انطلقت موضة إجراء الانتخابات في كل أنحاء الدول العربية، حتى في أكثر الشموليات تمكناً وشراسة. وهكذا اكتسب بعض الحكام العرب شرعية جديدة من خلال laquo;صناعة الانتخاباتraquo;. وهذا مكانيزم أو آلية جديدة لتحديث وتبرير الاستبداد، وتصعيب مهمة التحول الديمقراطي الحقيقي.

ولنبدأ بسؤال جوهري: هل الانتخابات شرط مطلق وضمانة لقيام نظام ديمقراطي مستدام؟ بداية، من الخطأ اختزال مفهوم الديمقراطية في التداول laquo;السلميraquo; للسلطة، أو عن طريق صندوق الانتخابات والتصويت.

فالانتخابات ليست مجرد عملية فنية تتمثل في قوانين انتخابات وطرق للاختيار الحر، بل عملية وممارسة سياسية معقدة، تشتمل على عدد من الآليات والمؤسسات، وبالتالي لا بد لها من استكمال شروط ومقدمات ضرورية. والبداية هي وجود أحزاب ديمقراطية حديثة حقيقية، قادرة على التنافس وفق برامج مفصلة مقنعة وقابلة للتنفيذ، وليس مجرد وعود وشعارات فارغة.

ويمثل تاريخ الانتخابات وكفالة حق التصويت، في السياق الأوروبي، مجمل تاريخ الصراع من أجل إقرار حق المواطنة، وتقنين الدساتير المحددة للحقوق والواجبات، وحرية التعبير والتفكير والعقيدة، وحق الاختلاف.

وهذا نتاج عصور الإصلاح الديني والتنوير، وثورات فرنسا وانجلترا والولايات المتحدة الأميركية. ولم تتوقف نضالات الحقوق الانتخابية، فالنساء في بعض الأقطار الأوروبية لم ينلن حقوقهن الانتخابية إلا بين الحربين العالميتين. وما زالت قوانين الانتخابات تعدل وتحسّن في أعتق الديمقراطيات الغربية.

الديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي، ولكنها ثقافة وفلسفة ورؤية للعالم والإنسان. وهناك قيم ومثل وسلوكيات تغرسها النظم الديمقراطية في الأفراد والمواطنين، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصية الإنسان.

وهذه وضعية تختلف كثيراً عن الذهاب الموسمي، كل أربع أو خمس سنوات لصناديق الاقتراع. فنحن نفتقد هذا التاريخ الديمقراطي الذي حوّل الانتخابات من مجرد تصويت إلى ثقافة وفلسفة.

لذلك، من الطبيعي أن نتحدث عن التزوير في الانتخابات في بلادنا، لأنها مسألة خارجية وشكلية، ومجرد قشرة لا نحس تجاهها بالانتماء، ونرى في تزوير الانتخابات نوعاً من الذكاء والفهلوة والحذاقة. ولكن ليس الأمر كذلك بين الغربيين، إذ تكاد تكون الانتخابات مقدسة هناك، لا يقل وزر من يزوّرها عن وزر من يسيء إلى النبي (ص) أو يدنس مقدسات دينية لدينا.

أُصاب بالدهشة حين يَعِد رئيس عربي شعبه بأن الانتخابات ستكون نزيهة وحرة! وكأن هذا إنجازاً!! فالانتخابات بالضرورة نزيهة، وإلا لا تسمى انتخابات. ولكن مثل هذه الوعود تشي بنوايا بعض أولياء الأمر لدينا، فالأصل في رأيهم التزوير، والنزاهة هي الاستثناء.

فالزعيم عندنا هو الشعب، وفي قولة أخرى هو الأب، وفي الحالتين يمكن أن ينوب عنه حتى في التصويت. لذلك، يجب أن ننظر للعملية ضمن تجديد الاستبداد، علماً أن هذه المنحة لم تكن واردة قبل عقد من الزمن.

نكاد نقصر فهمنا للانتخابات، رغم قصورها، على الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، بينما هناك أشكال عديدة تصلح كتمارين على الانتخابات الجيدة والحرة، مثل انتخابات منظمات المجتمع المدني، والاتحادات المهنية من عمال وموظفين ومحامين وأطباء ومهندسين، وروابط نساء وشباب وأقاليم..

كل هذه مناسبات لتعلم كيفية إدارة الانتخابات. ولكن لأننا أصلاً غير ديمقراطيين، نبتكر أساليب فاسدة حتى في هذه الانتخابات، من رشوة وتربيط وشللية وجهوية وتشبيك مصالح. وهذا من أسباب قصور منظمات المجتمع المدني، فأفراد المجتمع المدني عندنا لم يأتوا من السماء، خاصة وأن أغلبهم تحول من الأحزاب لهذه المؤسسات الجديدة، حاملاً معه كل الأدواء والجراثيم.

فقد كنا شديدي الأمل في المجتمع المدني، ولكننا خذلنا في أداء أفراده الذين حولوا منظمات المجتمع المدني إلى وسائل لكسب العيش والنجومية والتمتع بالسفر وتملق الخواجات!

هذا يعني ببساطة أن وسائل التحول الديمقراطي: الأحزاب والمجتمع المدني، قد أصابهما خلل كبير، وهذا يضر بكل عمليات الانطلاق السريع والصحيح نحو الديمقراطية.

وفي مثل هذا المناخ تبرز الظروف المساعدة للتزوير وتزييف إرادة الجماهير. ورغم بعدنا عن المعايير الدولية في الانتخابات، يغض الغرب ناظريه عن فضائحنا الانتخابية، وكأنه يقول: خذوهم على قدر عقولهم! ولا يذهب في إدانة التزوير الانتخابي.

وأعتقد أن الحل في الديمقراطية التوافقية، وأن نتوقف عن مسرحية الانتخابات التنافسية. فنحن لا نملك مقومات الديمقراطية التاريخية، ولا القيادات الراغبة في التحول الديمقراطي الحقيقي.. نحن نضيّع الكثير من المال والجهد في لعبة عبثية.