رشيد الخيّون

ليس حقل التَّربية والتَّعليم يعود إلى الوراء فحسب، إنما الحكومات المحلية يوماً بعد يوم تعود بالعراق إلى إجراءات الحسبة والمحتسبين، ولنا وقفة قادمة معها، لكن علينا عندما نقول العِراق أن نميز إقليم كردستان، فهو ومِن حظ الكرد ومَن يعيش هناك ملتجأ مِن العراقيين، لا تجري عليه قرارات وزير التَّربية والتَّعليم السيد خضير الخزاعي. فمع كلِّ ما يقال عن الفساد المالي والإداري والمحسوبية الحزبية هناك، فإن الانطلاق إلى الأمام، عبر التربية والتعليم، أمر لا يفرط به، وحتى القوى الإسلامية الكُردية التي رضيت بالدِّيمقراطية حلاً، ليس في حسابها أن تفصل بين الجنسين في المعاهد، ولا تحجب تعلم الموسيقى، ولا تقف ضد المسرح والتمثيل، وليس بتفكيرها أن تعلن، لو هيمنت عبر الديمقراطية، محافظات الإقليم إسلاميةً مثلما يجري بوسط العراق وجنوبه.
قررت وزارة التَّربية والتَّعليم، بشخص وزيرها ووكلائه، فصل الطُلاب عن الطالبات في معهد الفنون الجميلة، فرع الموسيقى والمسرح، وتعد العدة لقلع التَّماثيل التي أقامها فنانو المعهد، مِن مختلف الأجيال؛ فجواد سليم (ت 1961) وفائق حسن (ت 1992)، وشاكر حسن آل سعيد (ت 2004)... لم يعد الزَّمن زمنهم في ظل وزارة التَّربية والتعليم الحالية ومحافظة بغداد ومجلسها. ومعلوم أن الأمم لا تعرف العِراق باسم الخزاعي أو رئيس مجلس بغداد كامل الزَّيدي، ولا باسم محافظها صلاح عبد الرزاق، وإنما كانت تعرف العِراق بوزير المعارف (التَّربية والتَّعليم) الشَّيخ محمد رضا الشبيبي (ت 1965)، ومدير التعليم الدُّكتور محمد فاضل الجمالي (ت 1997)، وتعرف بغداد بمتصرفها (محافظها) القدير أمين خالص (ت 1965)، ومتصرفها المتحضر تقي القزويني (ت 2005).

أتيت على هذه الأسماء لأبين أن الماضي ليس كله سيئاً، وحتى مفردة التَّطور تبقى تحمل الوجهين، فعندما يظهر وزير التَّربية والتَّعليم ويتحدث عن التَّطور لا يعني الأمام وإنما يعني الوراء بتراجعه لا بتقدمه، بسوءاته لا بحسناته، فهو يعود به إلى ما قبل إصلاحات مدحت باشا (أُعدم 1883)، إلى أزمنة الانحطاط التي ارتدت بها الأزمنة متراجعة عن ثنائية الشَّريف الرَّضي (ت 406 هـ) وأبي إسحق إبراهيم الصابئي (ت 384 هـ)، هذا مرجع دين وشاعر، وهو جامع كتاب quot;نهج البلاغةquot;، وذاك كاتب صابئي.

كتب وزير التَّربية في سيرته الذاتية، حسب موقع الوزارة الرَّسمي، أنه صاحب شهادتين للدكتوراه، واحدة في تفسير القرآن، والثانية في الفلسفة والفكر الإسلامي، من دون تحديد الجامعة المانحة لهاتين الشهادتين، لكن هناك مَنْ كتب، والعهدة عليه، أن الشهادتين واحدة مِن الهند والأخرى مِن إيران، ولو كانت الجامعات مِن المعروفات، مثل جامعة طهران، ذات التاريخ والحاضر الراقي، لما أحجم الوزير عن ذكرهما، وإذا افترضنا أنه أخذ الشهادة بتفسير الطوسي، والفكر الإسلامي، وهو موضوع أوسع مِن البحر، فليس له صلة بالتربية والتعليم، حتى ولو كان خريج معهد المعلمين مِن مدينة العمارة، فالتربية والتعليم غدت علماً وفناً، فكيف إذا أُضيف لوزيرها أنه، وحسب رسالة وصلتني من كندا، كان يرتقي المنبر الحسيني قبل ارتقاء القارئ.

وهنا لا نقيصة إذا كان وزير التَّربية والتَّعليم يمتلك سماحة وفن وثقافة عميد المنبر الحسيني الشَّيخ محمد علي اليعقوبي (ت 1965)، أو سعة علم وثقافة الشيخ أحمد الوائلي (ت 2003). لكن التدريس 16 عاماً، حسب سيرته الذَّاتية، في الجامعات، ولا تعرف أسماء هذه الجامعات، لم تمنح وزير التَّربية والتَّعليم خطوة إلى الأمام، أو خطوة إلى الوراء باتجاه التقدم الماضي، الذَّي عاشته بغداد في الأزمنة الغابرة. ففي الماضي ينظر أيضاً لما كتبه أبو حيان التوحيدي (ت 414 هـ)، وقبله الجاحظ (ت 255 هـ)، وبينهما إخوان الصفا وخلان الوفاء (القرن العاشر الهجري)، وما سهر عليه فلاسفة بغداد ومعتزلتها في مناظرات وخلق أفكار نيرة.

لم تمنحه تلك التَّجربة، ولا السنوات الخمس كوزير للتربية، شيئاً مثلما منحت الحياة لمَنْ ليس يدعي بشهادة دكتوراه، ولا ماجستير، بل ولا ثانوية عامة، إنما أخذ علمه مِن حلقات الدِّراسة الدِّينية بالنَّجف. كان الشَّيخ محمد رضا الشِّبيبي في بداية حياته يقف بصف الحجابيين -إن صحة تسمية المطالبين بفرض النقاب والحجاب المتزمت- الرافضين لعمل المرأة بل وتعليمها. قال ناشراً قصيدته في مجلة quot;العرفانquot; الصَّيداوية (1909): quot;وأرباب الحِجا لهم حقوقٌ.. بنسبتهم كربات الحِجال.. بتدبير المنازلَ هـنَّ أولـى.. وهم أولى بتدبير النِّزالِ.. ولو كلَّفنَ جلب الرِّزق كانت.. وظيفتهنَّ طوع الاختلالِquot;.

لكن، بعد ممارسة الحياة العملية وتحمل المسؤولية في وزارة المعارف، انحاز الشَّيخ إلى ما ينفع البلاد مِن التَّطور والرُّقي، فلم يعد يتعصب ضد تعليم أو عمل المرأة، ولا يطاردها لحجابها. قال مير بصري (ت 2006): quot;كنِّا سنة 1946 أو 1947 في حفلة تخرج لمدرسة ثانوية البنات، فقال الشَّيخ محمد رضا الشِّبيبي، وكنت جالساً إلى جانبه، نرى المدرسات والفتيات سافرات يجئنَّ ويرحنَ ويخطبنَ على المنبر. قال لي: هل ترى تقدم الحركة النِّسوية في جيل واحد أو أقل مِنْ جيل في بلادنا! لقد كنتُ وزيراً للمعارف سنة 1924، أي قبل عشرين عاماً فقط، وقد فتحنا مدارس رسمية لتعليم البنات، واستقدمنا المدرسات مِنْ لبنان وغير لبنان، لكنه لم يكن في وسعي أن أزور مدرسة مِنْ تلك المدارس، وترانا اليوم نحضر الحفلات، ونشهد تقدماً لا مثيل لهquot; (أعلام الأدب في العراق الحديث).

وهنا لابد مِن الاعتراف بأن ما هيئ لهذا الوزير، وجرأته على قرار فصل الجنسين في معهد الموسيقى والمسرح، وتحويله الوزارة إلى حسينية متطلباً الثواب بها لآخرته، هي الفترة الماضية، فقد وجد عقولاً روضها الحصار له، وروضها النِّظام السابق بحملته الإيمانية، ومِن قبل بجعل حقل التَّعليم مقرات حزبية، والألسن لا تنطق إلا بالحزب القائد وقائده. لقد أخذني الفزع وأنا أرى أمين عام جماعة الخزاعي، في البرلمان يُطالب بتطبيق الشَّريعة، بقطع يد السارق والسارقة، على أنها شرع الله، ومِن المأساة أن يجمع الظلام بنور الله.

في التَّشكيل الوزاري الجديد لا بد أن يحسب حساب استدارة التَّربية والتَّعليم إلى الوراء، فرفقاً بالأجيال من شهوة التخلف.