مرح البقاعي

يحكى أنه laquo;كانت هناك سلطنة مستقلة يحكمها سلاطين مستقلون، كان آخرهم علي دينار، السلطان الذي اشتهر بتسيير قافلة إكساء الكعبة وتوفير الغذاء للحجاج، والتي عُرفت بـlaquo;قَدَح السلطان علي دينارraquo;، السلطان الذي عُرف بعدائه لبريطانيا العظمى آنذاك، العداء الذي كلّفه حياته واستقلال بلده حين قررت بريطانيا ضم سلطنة دارفور إلى السودان في العام 1917. رحل السلطان علي دينار، ورحلت معه السلطنة، لكن الذي لم يرحل هو الأرض.. أرض دارفور بمساحتها الدامية التي تلهبها سياط شمس أفريقيا من جهة، وتسعّرها نزاعاتها العرقية الجائرة من أخرىraquo;.
من خلال لقطة laquo;الفلاش باكraquo; تلك، قدّم الإعلامي والأديب محمد اليحيائي لفيلمه التوثيقي: كونونغو، حيث صرف والفريق الفني العامل، وقتا ليس باليسير، في القلب من صحراء تشاد، في ظروف أمنية ومعيشية هي الأصعب، لينقل لنا مشاهد التشرد والقهر والعزلة التي يعيشها لاجئو دارفور في معسكر كونونغو منذ العام 2003، في واحدة من laquo;أشد المآسي الإنسانية قسوةraquo;، حسب تصنيف الأمم المتحدة لأزمة أهل دارفور، حيث تجاوز ضحاياها الملايين الثلاثة، جرّاء أحداث تنقلت ممارسات العنف فيها بين قتل واغتصاب واعتداء سافر وإكراه على النزوح.
يرتدي النزاع في دارفور قناعا عرقيا قبليا ملامحه تتشكل من شراسة التنافس على الأرض ومصادر المياه، بين ما يعرف بالقبائل المستقرة والقبائل المترحّلة، التي وفدت إلى الإقليم في فترات زمنية متفرقة. هذا النزاع العرقي المنبت سرعان ما تحوّل إلى صدام سياسي laquo;أرباثيديraquo; تبدّى في اشتباكات مسلحة بين وافد ومقيم؛ وما أججّ تلك النزعة الإقصائية، كما هو الحال في غير دولة عربية، ذلك التسخين القومجي العروبي للحكومة المركزية في الخرطوم، والتسعير الشوفيني الذي يعزل كل من هو مختلف، ويصنّفه في لائحة الأقليات المثيرة للفتن والبلبلة، والمهدِّدة للوحدة الوطنية والأمن القومي!
هذا التيار السياسي المتمترس في نفسه، والأحادي النزعة، الذي يقبض على زمام الأمور في السودان منذ استقلاله في العام 1956 كان قد جيّش الثقافة العربية في خدمة أغراضه السياسية لإحكام السيطرة على البلاد من باب الانتقائية العنصرية، مهمّشاً ومُقصياً أبناءه ممن لم يمنحهم مظلة الانضواء تحت خانة العرب والعروبة، على رغم أن الثقافة العربية الإسلامية هي أصلا ثقافة جمعية جامعة قامت على أعراق وثقافات متعددة، انضوت تحت لواء الدولة العربية، والتي تجلت في دولة الأندلس السابقة لعصرها في أبهى مظاهر التعددية الإثنية التي عرفها التاريخ الإسلامي. ولو أن الحكومة المركزية في الخرطوم اتسمت بالقدر اليسير من التوجه الديمقراطي الذي قوامه احترام حريات الأفراد في التعبير عن المعتقدات وممارسة التعدد الثقافي والعرقي، لكان بالإمكان تجنب هذه المواجع الإنسانية التي تغطي اليوم مخيّم كونونغو وسكانه بضباب ثقيل وخانق من الإجحاف بحق الإنسانية بعامة، والحياة البشرية بخاصة، التي يفترض أن تكون كريمة، مصانة، وآمنة.
ولعل ما يثير التساؤل والامتعاض هنا هو صمت القبور الذي تمارسه المؤسسة الرسمية العربية والإسلامية لجهة معاناة أهل دارفور (العرب المسلمين بشهادة التاريخ والأرض والانتماء، وأحفاد قافلة إكساء الكعبة)، في الوقت الذي يشنّ العرب العاربة، دونما هوادة، الحملات المحلية والدولية دفاعاً عن حقوق المسلمين في غير مكان، ابتداء بالبوسنة والهرسك، مرورا بفلسطين والعراق، وانتهاء بأقلية الويغور المسلمة في الصين. فما هو مصدر الاستكبار العربي على الشأن الدارفوريّ، في حين إن منظمات الإغاثة الإنسانية، من جميع أنحاء العالم، تعمل على الأرض هناك لتمد يد العون لهؤلاء المنكوبين باستقرارهم وقوتهم وحياة أطفالهم؟ ولماذا وقفت الدول العربية، بكامل استعداد جوقتها الإعلامية والرسمية، كالبنيان المرصوص، في مواجهة القانون الدولي لمنع محاكمة عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في حين غضّت البصر عن حملات الترويع والإبادة الجماعية التي مارستها ميليشيات الجانجاويد (جند البشير المجنّدة) من على صهوات أحصنتهم، أو من متن سخط طائراتهم تدك الأخضر واليابس في أرض العزل المغلوبين.
الفيلم التوثيقي كونونغو، الذي أنتجته وبثته قناة الحرة الأميركية الناطقة باللغة العربية في يوم الثلاثاء 19 يناير (كانون الثاني) على شاشتها، يعدُّ نقلة نوعية في تاريخ هذه المؤسسة التلفزيونية، التي طالما أخفقت في تحقيق الأهداف التي وجدت أصلا من أجلها، وهي مدّ جسور التفاهم بين العالمين العربي والإسلامي من جهة، والولايات المتحدة الأميركية والغرب من جهة أخرى، وتقديم الحدث العالمي بقراءة وتحرير مغايرين لما يقدم على الشاشات الفضائية العربية، مراعية الموضوعية والشفافية والحياد المهني.
هذا الفيلم التوثيقي الذي نفض laquo;الشحوب المهنيraquo; عن شاشة الحرة وأحال مشهدها، في جرعة واحدة، من ركود لونيّ الأبيض والأسود إلى نضارة ألوان ديجيتال، قد يضع هذه المحطةـ التي مازالت تبحث عن ملامحها الإعلامية وموقعها على الخارطة الفضائيةـ في موقع المنافسة الجدية لهدف كسب مساحات مشاهدة أوسع في العالم العربي، وتحديدا في طرحها للقضايا التي تتجنب معظم الفضائيات العربية مقاربتها في العمق، وهي القضايا التي تتعلق بالمواطنة، وحرية التعبير والمعتقد، وحقوق الفرد، والمجتمع المدني كدينامو تفعيل الديمقراطيات المحلية.
سألني مؤخرا رئيس تلفزيون الحرة، براين كونيف، في لقاء عمل جمعنا في مقر المحطة في ولاية فيرجينيا، عن سبب الإحجام عن مشاهدة القناة في العالم العربي برأيي، فأجبته باقتضاب: laquo;إنها الهوية، الحرة لم تحدّد هويتها حتى اللحظة!raquo;.
كونونغو محاولة جريئة لمحمد اليحيائي لفك الاشتباك بين الشأنين الإنساني والسياسي في أزمة دارفور، وهو الاشتباك/ الفخ الذي يقع فيه أغلب الإعلاميين في العالم العربي في معالجتهم لأزمات المنطقة، التي هي إنسانية في الدرجة الأولى، وتقع أعباؤها على كاهل المواطن وحده، المواطن الذي لاحول له ولا قوة في ظل نظم عمادها سطوة الرجل الأحد والحزب الأحد والرأي الأحد.
كونونغو محاولة جريئة لقناة الحرة أيضا من أجل الدخول إلى البيوت العربية من بوابة المسكوت عنه والمغّيب في الإعلام العربي الرسمي والخاص وفي مقدمة ذلك المغيّب صور الحراك المدني الدافع في اتجاه المزيد من حقوق المواطنة المشروعة في اختيار المعتقد الديني والسياسي، وحرية التعبير دونما قيود، والمشاركة الفاعلة في الحكم.
هو شريط مشهدي له ألوان المعاناة الإنسانية بأصوات لاجئي دارفور أنفسهم، نسائهم رجالهم أطفالهم شبابهم شيوخهم، أصوات تنافس الصدى، واجعة وموجِعة، على خط الفراغ الواهي من صحراء تشاد، حيث وطن الرمل البديل: كونونغو!