سعود البلوي

في مقال الأسبوع الماضي (أنظار الجمهورية التركية تتجه شرقاً) أشرتُ إلى بعض الخطوات السياسية التي تحاول بها تركيا الانفتاح على محيطها الشرقي بشكل عام، وقد بدأت بالانفتاح الثقافي على قضايا كانت تعتبر ذات حساسية عالية بالنسبة لها، كالقضية الكردية، فقد تم إطلاق قناة تلفزيونية ناطقة باللغة الكردية، وهذا يعتبر اعترافاً ضمنياً بالحق الثقافي للمواطنين الأتراك المنتمين للقومية الكردية، وخصوصاً أن تركيا تتميز بثرائها الثقافي والديموجرافي، ولكنْ تنضوي جميع الانتماءات الثقافية المحلية تحت العلم التركي، وهذا ما تتيحه العلمانية، حيث تستطيع استيعاب كل هذا التعدد والاختلاف.
أما الأتراك المنتمون للقومية العربية فقد شعروا بانفتاح الدولة على لغتهم مؤخراً، حيث افتتحت قناة فضائية رسمية ناطقة باللغة العربية، وهذا يصب أيضاً في مصلحة أخرى، وأعني المشاهد العربي في الشرق الأوسط، حيث تستطيع إدارة الجمهورية التركية توضيح وتمرير سياساتها الجديدة واكتساب شعبية ما بصرف النظر عن مدى تأثير هذه الشعبية، فقد استطاع الإعلام التركي من خلال الدراما أن يكتسب جمهوراً عربياً عريضاً، إذ أسهم رأس المال العربي بشكل مباشر في ذلك من خلال شركات الإنتاج، فحققت المسلسلات والأفلام التركية المدبلجة إلى العربية نسبة مشاهدة عالية خلال السنوات الثلاث الماضية، مما حقق أيضاً توجيه أنظار السياحة العربية إلى تركيا من جديد.
واستطاعت الدراما أيضاً أن تزعزع شيئاً من الصورة النمطية الشائعة عن عمق علاقة تركيا بأمريكا وإسرائيل، فقد أُنتج فيلم التركي quot;وادي الذئابquot; عام 2007 بتمويل من المؤسسة العسكرية التركية، وحينما تم مؤخراً تحويل قصة الفيلم إلى مسلسل أسبوعي ثار غضب إسرائيل، حتى أن نائب وزير الخارجية الإسرائيلي (داني أيلون) اعترض على عرض الفيلم متعمداً إهانة السفير التركي في تل أبيب لدى استقباله له، فلم تفوّت الحكومة التركية هذه الفرصة لإثبات الوجود والظهور بموقف القوة من جهة، والحصول على مزيد من التعاطف الشعبي داخل تركيا وفي العالم العربي من جهة أخرى، وهذا ما حصل، إذ كانت ردة الفعل التركية حازمة، وصلت للتهديد بقطع العلاقة مع إسرائيل من قبل رئيس الجمهورية عبدالله جول ورئيس الوزراء رجب طيب إردوغان إلى أن قدمت إسرائيل اعتذاراً رسمياً لتركيا. وقبل ذلك قال الأتراك quot;لاquot; للمشاركة الإسرائيلية في المناورات العسكرية (نسر الأناضول) التي كانت تجري باستمرار بمشاركة أمريكية أواخر 2009، بسبب اعتداءات إسرائيل على غزة.
تتحرك سياسة الحكومة التركية بشكل جيد نحو تحقيق طموحها بلعب دور أكبر في الشرق الأوسط، وهذا ما جعل رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان يؤكد على جاهزية تركيا للتوسط في حرب اليمن مع الحوثيين، ونتيجة للحاجة الإقليمية والدولية قد يتنامى دور تركيا ويتطور، كردة فعل عكسية على اصطدام أحلام الأتراك بالصعوبات القديمة التي حالت حتى الآن دون تحقيق دخولها لمنظومة لاتحاد الأوروبي، ولا زال تصريح (جيسكار ديستان) الرئيس الفرنسي السابق ورئيس لجنة صياغة الدستور الأوروبي بأن الاتحاد quot;نادٍ مسيحيquot; متداولاً، وربما يكون الرُّهاب من الإسلام (الإسلاموفوبيا) السبب ذاته الذي يمنع ألبانيا-وهي دولة أوروبية ذات أغلبية مسلمة- من الدخول إلى هذا النادي، ولذلك ربما وجدت تركيا فرصتها الأفضل في الشرق حالياً، في ظل انسداد الطريق للغرب، فوجود تركيا كحلقة وصل تربط أوروبا بالشرق الأوسط سياسياً، مثلما تربط أوروبا وآسيا جغرافياً، سيجعل منها أيضاً بوابة اقتصادية لأوروبا على الشرق الأوسط وآسيا عموماً.
وتستطيع تركيا الإفادة من عمقها الإستراتيجي بشكل أو بآخر لتحقيق بعض أهدافها لتكون دولة أكثر أهمية، وتحاول الحكومة الخروج من التنظير إلى تطبيق الأفكار، من خلال تعيين البروفيسور أحمد داوود أوغلو (مؤلف كتاب: العمق الإستراتيجي) وزيراً للخارجية، منتقلاً من العمل الأكاديمي إلى العمل السياسي على رأس الدبلوماسية التركية. ومع احترامي الشديد لخطوات الحكومة التركية الحالية وذكائها السياسي، إلا أن أحلامها-سواء بالشرق الأوسط أو أوروبا- يجب ألاّ تنسيها همومها الداخلية، فالداخل التركي يحتقن في ظل تنامي الأزمات الاقتصادية والسياسية، ورغم بقاء الجيش التركي هادئاً إلا أن المؤسسة العسكرية لن تقبل بأن تسلبها أحلام الانضمام لأوروبا صلاحياتها ومزاياها، فالجيش يذكّر بين فينة وأخرى بوجوده كحارس للعلمانية التركية من جانب، والحكومة تحاول التخفيف من حدة سلطة الجيش من جانب آخر، وخاصة بعد اتهام بعض أفراده بالتخطيط للانقلاب على الحكم المدني، ومن بينهم قادة متقاعدون في قوات القوات المسلحة، وتطالب الحكومة بمحاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية، وما زال الرضا الأمريكي قائماً كحاجز ضد انقلاب الجيش على الحكومة، وبالتالي على الحكومة أن تستفيد من هذا الدعم، وتجيد المناورة مع جميع الأطراف بما لا يقضي على الأحلام التركية في الشرق والغرب.