مالك التريكي
قال مدير المؤسسة في بداية الاجتماع الأسبوعي مع رؤساء الأقسام وكبار الموظفين: 'كما تعلمون اليوم هو الثامن من آذار (مارس)، يوم المرأة العالمي. وبما أننا مؤسسة عصرية تقرن القول بالعمل في مجال المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين وفي مجال الاحتكام في تعيين الموظفين وتقييمهم وترقيتهم إلى مقاييس الكفاءة والجدارة فحسب، فإن من واجبنا أن نقوم بتكريم زميلاتنا في مثل هذا اليوم عرفانا لهن بجزيل فضلهن. فانظروا أي وجه من التكريم تختارون، وأنا تحت أمركم'.
فما كاد المدير ينهي مقالته، وقبل أن يتسنّى لأي من الرجال الحاضرين أن ينطق بأي كلمة، حتى انبرت موظفة من النابهات قائلة بصوت جازم: 'إن أفضل تكريم لنا، معشر النساء، هو أن تدعونا وشأننا و'تسيبونا في حالنا'..'. فضحك القوم وانتقلوا إلى أول بند على جدول الأعمال. ومر اليوم دون تكريم ولا يحزنون، سوى أن موظفا من المغتربين أعلن أن كل مشروبات النساء، بما فيهن صاحبة الكافتريا، ذلك اليوم سوف تكون على حسابه.. وسوى أن المدير، الذي كان يعني ما يقول، قد عثر على قصيدة رقيقة باللسان الإنكليزي فبثها بالبريد الإلكتروني. قصيدة من النوع الصافي الرقراق تمجّد المرأة باعتبارها الكائن الجمالي بامتياز، وتتغنى بها لا باعتبارها ينبوع العاطفة والوجدان الملائكي فحسب، بل باعتبارها مصدر القوة الإنسانية الحقيقية. ليس القوة الظاهرية - قوة الصخرة التي تتكسر عليها الأمواج- بل القوة الجوهرية: قوة الأمواج التي تطوع الصخر. الأمواج التي تؤتى سلاح الزمن -إما عمرا شخصيا أو تاريخا اجتماعيا- فإذا بها تنحت الصخرة نحتا. تنحتها على غير سابق مثال إلا ما تلهمها إياه 'إرادة الحياة' (حسب عنوان قصيدة أبي القاسم الشابي الشهيرة) ومحبة الأقربين وذيّاك الصبر الشديد على النفس، الرفيق بالأهل، البالغ بالمرأة التي تكابده في حزن نبيل مراقي عزّ أن تدرك.
إنها لحقيقة يشعر بها معظم الناس، لكنهم يتصرفون كما لو أن العكس هو الصحيح. حقيقة أن المرأة هي مصدر القوة الحقيقية، الجوهرية. 'القوة الناعمة' إذا جاز استعارة عبارة أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي جوزيف ناي، أو 'القوة الهادئة' إذا جاز استعارة شعار أطلقه الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في إحدى حملاته الانتخابية. هدوء ونعومة قد لا يحالفهما الحظ إلا لماما. هدوء ونعومة قلّما تحالفهما قوانين الاجتماع والسياسة والاقتصاد، بل حتى فرص التعليم وحصص الغذاء (في كثير من البلاد الفقيرة). هدوء ونعومة تتآمر عليهما الثقافة والطبيعة على حد سواء. الثقافة لأنها استئثار رجالي بإنتاج الرمز وتحديد قيمه التداولية. والطبيعة لأنها إنتاج يومي لهشاشة الأنوثة، وانحياز ممنهج ضد كينونة الوردة: كينونة التجلي الجمالي البارق الخاطف، العابر في قوام عابر، المار 'مرور الكرام'، الوامض ومض السهام. هدوء ونعومة تتألب عليهما الثقافة والطبيعة. الثقافة لأنها، في نهاية المطاف، غريزة. والطبيعة لأنها، في نهاية المطاف، شريعة. شريعة الظلم العابث: ما أن يبدع وردة جديدة حتى يصيبها بسهم الزمن. السهم الماضي مضيّ العمر، الماضي مضاء القدر.
أما في عموم البلاد العربية فإن المرأة ليست ضحية الثقافة والطبيعة فحسب، بل إنها كذلك ضحية اجتماع سياسي ينتج موته يوميا. اجتماع سياسي يمارس العدم. لكنه لا يألو جهدا في الهذيان الموزون والمقفى حول العدم وفي المفاخرة بأن للعدم تضاريس محلية: تشريعات وتعديلات وانتخابات ومراسم وتشريفات. وكلمات. وأسماء. 'إن هي إلا أسماء سميتموها...'، كما تقول الآية الكريمة. اجتماع سياسي يعامل البنات والفتيات على أنهن زجاجات مولوتوف أو قنابل موقوتة. اجتماع سياسي يفرّط في كل الأرض ويتشبث بفواضل العرض...
ولهذا فلا عجب، والحال هذه، أن بعض الزعماء العرب من ذوي العزم في تاريخ حركات التحرير الوطني قد ارتأى أن تحرير المرأة هو مفتاح التحرر الاجتماعي والثقافي. أما حقيقة أن هذا المسعى، الثوري أصلا ومقصدا، قد خاب حتى انقلب منقلبا منافيا لروح الحرية الاجتماعية، بل نافيا لشرط الاستقلالية الوجودية، فتلك قضية سياسية بامتياز تضع المجتمع بأسره موضع السؤال.
التعليقات