علي بن حمد الخشيبان

الفرضية التي أتبناها دائماً في مناقشة قضية الإسلام السياسي، الذي نتج عنه الخلل الكبير في الفهم الديني تاريخياً كما يعكس الواقع ذلك ونتجت عنه ظاهرة العنف ليس الحديثة فقط وإنما تاريخ العنف كله في الفكر الإسلامي، هذه الفرضية تقوم على quot;أن هناك نقطة غير مرئية في طريقة استخدام التاريخ الديني وتوظيفه مع التقادم الزمني للأمة الإسلاميةquot;.

هذه النقطة التاريخية غير المرئية بقصد أو من غير قصد هي فلسفة الفهم الحقيقي للهدف الديني فمثلاً لازال يصعب الإجابة على سؤال حول ما هو الهدف من الدين ليس كعقيدة لتوحيد العبادة للخالق ولكن كممارسة حياتية ذات علاقة بالمعطيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هل هو هدف واقعي أم ميتافيزيقي..؟.

لعل السؤال الآخر والمهم أيضاً الذي يمكن أن يوجه إلى منظري الإسلام السياسي يقوم على الاستفسار عن آليات الاستناد إلى التاريخ في تحقيق المستقبل وهذا السؤال يقول: هل الإسلام قابل للتطور والتكيف بمعطيات بشرية وليست نبوية (بمعنى آخر هل استطاع المسلمون قيادة الإسلام كعقيدة بشكل صحيح بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ...؟.

هذا السؤال وإن كان يبدو بسيطاً في تشكيلته الحرفية إلا انه من أصعب الأسئلة التي ظهرت منذ اللحظة الأولى لوفاة النبي عليه السلام، فهل خليفة الرسول عليه السلام قائد سياسي أم خليفة للنبي أم وكيل عنه أم كل هذه الأشياء...! من هذه الفكرة انفجرت أزمات فكرية منذ اللحظات الأولى لوفاة النبي عليه السلام.

في بعض المذاهب أصبحت فكرة النيابة الدينية محوراً لكل تعاملاتها وفي بعضها غابت القضية ولم تظهر بشكلها الواضح وفي بعضها كان العلماء ورثة الأنبياء فتداخلت تارة وتفرقت تارة، ولكن التاريخ الإسلامي لم يستطع الجزم بصحة موقف المسلمين ودرجة هذا الموقف بعد وفاة النبي عليه السلام.

هذه هي الأزمة الحقيقية التي نعاني منها عند مناقشة الفكر الإسلامي وعلاقة ذلك بالإسلام السياسي الذي شكل الحياة التاريخية والحضارية للمسلمين ففي أحيان كثيرة يصبح السلم مطلباً تاريخياً وفي بعض الفترات التاريخية يصبح العنف مطلباً تاريخياً وهذا يقود إلى سؤال مهم يقول: هل القيادة السياسية في الإسلام للعلماء أم للعاملين..؟ هذا سؤال آخر الإجابة عليه ستحسم قضايا كثيرة أصبحت في عداد المسكوت عنه في الإسلام..؟.

كل مسلم يستطيع أن يتصفح الكتاب الكريم أو السنة النبوية ويتبنى الموقف الذي يعبر عن فكرته وهو بذلك يستخدم هذه الفكرة بحسب قوته. ما حدث في التاريخ الإسلامي هي أفكار مختلفة تبنتها قوى لديها نفوذ اجتماعي أو سياسي وفرضت فكراً بعينه كنتيجة حتمية لقناعاتها الشخصية.

مثلاً فتنة خلق القرآن، فتنة التحكيم، فتنة مقتل عثمان بن عفان ،فتنة مقتل علي بن أبي طالب الخ..... من المواقف الفكرية التي تعكس نموذج وآليات التعامل مع الفكر الإسلامي عندما انتقل من الصيغة النبوية والتي تمثلها وفاة النبي محمد عليه السلام إلى الصيغة البشرية التي يمثلها من أصبح قائداً للمسلمين ،فهل كان المسلمون بحاجة إلى أن يستمر وجود النبي محمد عليه السلام معهم ومع الإسلام إلى يوم القيامة ليستطيعوا تسويق الإسلام وضمان استمراريته بدلاً من الدماء التي سالت منذ اللحظة الأولى لوفاة النبي عليه السلام.

التاريخ الإسلامي لو كتب بعيداً عن المشروعات السياسية لوجدناه مختلفاً بطريقة أدائه ومميزاً بمنهجية فهمه للواقع. طريقة فهمنا لمصادر التشريع في الإسلام (القرآن والسنة النبوية) اعتمدت الحفظ للنصوص وإثبات صحتها وهذا مناسب لهذه المصادر ومطلب ديني، ولكن عند هذه اللحظة حدثت الإشكالية الكبرى فطبعنا أسلوب الحفظ للنصوص على الحدث التاريخي فلذلك نحن اليوم نريد إعادة التاريخ محفوظاً بطريقة فكرية تعتمد إعادة الماضي بكل مكوناته وهنا الأزمة.

قيام خلافة إسلامية لا يمكن تحقيقه ليس لأسباب عقدية ولكن لأسباب فكرية وتاريخية واجتماعية، فهل الخلافة الإسلامية القادمة سوف تدرك الفرق بين (دور السيف ودور القلم) كما تشرحه مصادر الإسلام، وهل سوف تقسم العالم إلى (دار إسلام ودار كفر).

إذا كانت كذلك فهي لن تختلف عن مشروعات التطرف التي نعاني منها اليوم لذلك فإن الخلافة بهذه الإستراتيجية لن تقوم سوى على ورق وفي عقول التشدد والتطرف. الإسلام السياسي الذي تكرر عبر التاريخ الإسلامي لم يكن مفيداً للإسلام بالدرجة التي نتوقعها أو يطلبها المسلمون والدليل على ذلك تلك الدماء الإسلامية التي أريقت لهذا السبب..!.

نلاحظ أن ما حققه الإسلام من انتشاره كعقيدة خلال قرونه الأولى _تقريباً ما قبل الخمسمائة سنة الأولى_ له أسباب تاريخية وجغرافية واجتماعية بعدها توقف هذا التاريخ وكل ما تحقق من انتشار للإسلام لم يكن عسكرياً بل كان سلمياً بل إن أكثره تأثيرات فردية ومشروعات توعوية سلمية وقناعات فكرية بحتة لم تستخدم العنف أبداً.

قد يثير أحد أن هناك غزوات قامت بها دول إسلامية بعد هذا التاريخ إلى بلدان لم تكن مسلمة وهذا صحيح ولكن لم تسجّل هذه الغزوات مهما كان عددها تحولاً فكرياً يحقق تغيير الدين في دولة من تلك الدول التي تم غزوها بل إن المشكلة أن عدد الحروب بين المسلمين يساوى أضعاف أضعاف الحروب مع غير المسلمين.

التاريخ الإسلامي وخاصة الطريقة التي كتبت فيها اتجاهاته المختلفة وطوائفه وفروعه هي في حقيقتها من كان السبب في إغراق العقل الفكري الإسلامي بقضايا يصعب التعامل معها بل إن بعضها أصبح مستحيلاً من حيث الفهم والإدراك والتحليل ،مثلاً قضية خلاف (السنة والشيعة) وقضية الفئة الناجية التي يمكن أن يثبتها كل مسلم على نفسه إذا كان يؤمن بالأركان الخمسة للإسلام.

في الإسلام السياسي الحديث وخاصة في العقود الأربعة الماضية سيطرت فكرة التكفير على المشهد الفكري الإسلامي وتم الاستدلال بفتاوى علماء مسلمين عاشوا قبل أكثر من ستة قرون واعتبرت هذه الفتاوى استناداً فكرياً ومبرراً لمنهجية التكفير وهذا ما حدث بالفعل فقد تصرفت الجماعات المسلحة الإسلامية بمنهجية تبرير موقفها من الآخر عبر تكفيره بغض النظر عن هذا الآخر سواء كان مسلماً أو غير مسلم.

خلال العقود الماضية تحوّل مشروع تلك الجماعات إلى نظام يستخدم حرب الاستنزاف عبر توجيه الضربات لكل المخالفين وفي هذه اللحظات أصبحت هناك حاجة إلى البحث عن مصادر تشريع تلك الجماعات والتي تبرر لها تلك الأعمال المفاجئة.

في الحقيقة ان تلك المبررات لم تأتِ من علماء غرباء عن المجتمع تاريخياً بل إن المفاجأة أفقدت كثيراً من المجتمعات الإسلامية توازنها عندما اكتشفت أن الأدلة التي تستخدمها تلك الجماعات المتشددة لتبرير العنف لديها هي فعلياً متداولة اجتماعياً وهنا كانت أهم مفاصل خطورة الإسلام السياسي واختراقه للمجتمعات الإسلامية فلم تكن رموز الإسلام السياسي ابتداء من قطب الذي كتب (معالم في الطريق) الذي يقول في أول كلمات في مقدمته (تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية )، هذه الانطلاقة في المقدمة تقرير إخباري وحكم مسبق على البشرية كلها فكانت نتائجه ما شهدناه من عنف راح ضحيته مئات الأبرياء.

فلسفة العنف والإرهاب أصبحت مفتوحة للجميع فالكل يحاول أن يوجد لها الحلول من زاويته فالسياسة الدولية تحاول ربطها ببعد حضاري بين الشرق والغرب والسياسة الإسلامية المحلية تسعى جاهدة إلى إبعاد أصول ظاهرة الإرهاب عن فلسفة الدين الإسلامي عبر تمرير الوسطية وهي فلسفة مؤقتة لم يكن لها وجود في تاريخ الفكر الإسلامي من الناحية التطبيقية مع وجودها كلفظة مرغوبة ترددت في القرآن والسنة ولكن وجودها كأيديولوجيا لم يكن محدداً بتاريخ بعينه.

إن الصعوبة التي تواجهها الدول الإسلامية في مواجهة الإسلام السياسي هي أن الوسطية تجربة فكرية مستحدثة في التطبيق مع الإيمان بوجودها كمشروع فكري في مصادر الإسلام الأساسية (القرآن والسنة) يمكن تطبيقه ولذلك فإن تطبيق الوسطية كمشروع اجتماعي وسياسي يتطلب تجربة فريدة عبر قراءة الفكر الإسلامي ولن يساهم في هذه التجربة رجال الدين لوحدهم فرجال التاريخ وعلماء الاجتماع والتربية والاقتصاد مطالبون بمساهمتهم وخاصة علماء الاجتماع، لأن التاريخ الاجتماعي هو مصدر المعرفة لتغيير مسارات المجتمع.