حسن اليمني

لا ينبت الورد والريحان إلا في الطين المخلوط بالسماد والعطن، وكل واقع مأزوم هو مناخ خصب للإبداع والفكر، وفي واقعنا العربي اليوم ورغم إرهاصاته المؤلمة والموجعة، نستطيع تلمح بعض المسارات التقدمية والتي بطبيعة الأمور تقمع في الغالب أو تسفه سوى من قبل النخب أو العموم بحد سواء، ولهذا أجد صعوبة في التسليم بصحة ما يقال عن خلو الثقافة العربية المعاصرة من فكر وإبداع وقراءات فلسفية عربية خالصة من شئابيب وسحر الفكر الغربي، لكن الإبداع متى ولد في واقع مأزوم قمع وعزل وربما عد هرطقة وفلسفة عبثية، بحكم أن التأزم ذاته هو ضيق في الرؤية وتبعثر في الفكر.

ولأن الحكم الانطباعي يحكمه في الغالب مساحة المؤثر وفعله الصاخب، فإن من المفيد في سبيل البحث عن إشارات خافتة، الخروج عن مدى المساحة المؤثرة وصخبها إلى دوائر الفكر والتأمل في أدوات الفعل والحركة في إطار التاريخ والجغرافيا ليتسنى لنا رؤية ما قد يخفيه وجه المشهد، إذ أن ثلاثي الحراك والتغيير المتمثل في التاريخ والجغرافيا والمجتمع، يحتاج إلى تبدل الفصول لتتجدد وتتغير إلى واقع آخر، وإذا كان كل مجتمع ذا ثقافة وفكر، فإن التاريخ والجغرافيا بمثابة عواطف وطموحات، ومتى غلبت العواطف إرادة المجتمع خضع لها واستكان وإن أضفت لها طموحات الآخرين أصبح أسيرا وتابعا ومقلدا، وربما انسلخ من ذاتيته واندمج في ذاتية الآخر، وهذا في رأيي أمرا طبيعيا ومنطقيا وليس فيه جديد، غير أن قيمة الهوية والثقافة الاجتماعية هي التي تحدد المدى المؤثر للخزن الوجداني أو قهر القوة، وكلما كانت هذه القيمة في الهوية والثقافة الاجتماعية مرتهنة أو متحفزة بين أمواج تلك العواطف والطموحات كانت حاضرة أو غائبة في إراداتها تجاه ذاتها حسب درجة الحضور أو الغياب.

كما أن التاريخ والجغرافيا ليسا إلا ضلعين للتأثير في مثلث الحراك والتغيير، وقاعدة هذا المثلث الاجتماعية هي محور الحركة وأداة التغيير، وبداخل هذا المثلث تدور وتتنافس في مساحته دوائر الأفكار والأشخاص والأشياء حول بعضها، ومتى توسعت دائرة الفكر واحتضنت الأشخاص والأشياء تحررت الأمة من ضعفها وتخلفها وصارت مؤثرة وفاعلة فيما حولها، ومتى كانت الأفكار والأشياء دائرة في فلك الأشخاص كانت الأمة حبيسة أساطيرها، أما متى دارت الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء فإن هذا مؤشر لذوبان التاريخ في الجغرافيا.

وإن كان ما طرحه الدكتور عبد العزيز السماري في مقالته الرائعة المنشورة في هذه الجريدة يوم السبت العاشر من جمادى الثانية لهذا العام تحت عنوان (لماذا لا توجد فلسفة عربية معاصرة) كسؤال مستحق للطرح، إلا أن إجابته لا يمكن أن تكون سهلة ولا يمكن اختزالها في سطور، ذلك أننا عندما نتحدث عن عصر وحراك مجتمع أو أمة تصبح الإجابة في حاجة إلى لملمة التضاريس المتفاوتة بين علو وانخفاض وطقوس متداخلة بين الشمس والظلام، ومع هذا يمكن تلمس بعض المؤشرات الدالة على حضور الفلسفة العربية في عصرنا الحاضر من خلال الإطلالة على نوادي المهجر وإن كان ذلك ضعيف نسبيا، إلا أن مفكرا مثل روجيه جارودي أستاذ الفلسفة المادية والشاعر الأمريكي دانيال مور والمحامي الإيطالي روزاريو ياوسكيني وهم غربيون وقد تعربوا ثقافيا، ربما صح ذكرهم لإثبات حضور الفلسفة العربية المعاصرة وبقصد الفكر لا الأشخاص، كما أن أمتنا العربية تحتضن رموزا وقامات فكرية لها شأو وبون شاسع ولا ينقصها سوى الوهج الإعلامي الأسير لدى الآخر، وإن أضفت لهذا حالة الصحوة في الوعي والفكر لدى الكثيرين في الوطن العربي، فإن ذلك بمجموعه قد يعطي مؤشرا أو دلالة لإجابة السؤال، وفي كل الأحوال، فإن الأرض الجافة تحتاج للماء مثلما تحتاج المجتمعات المتخلفة للوعي، وإن الزرع يحتاج حرثا مثلما تحتاج الإنجازات إرادة، وإن الإرادة تكون أقوى ما تكون عندما تبحث عن ذاتها.