محمد عاكف جمال


بين السابع من يونيو عام 1981، حين كان المفاعل النووي العراقي (تموز- أوزيراك) المجهز من قبل فرنسا، على وشك أن يُشحن بقضبان الوقود للبدء بتشغيله، وبين الحادي والعشرين من أغسطس 2010 حيث بدأت عملية شحن الوقود في المفاعل النووي الإيراني laquo;بوشهرraquo;، ما يقرب من ثلاثة عقود من السنين شهدت فيها منطقة الشرق الأوسط أحداثاً جسيمة، رغم أن الثوابت التي تحكم أطرها لم يطرأ عليها تغيير يذكر.

هناك تباين كبير بين الحدثين، الحدث الأول صنعته تشكيلة من ثماني طائرات إسرائيلية من طراز اف 16، تحرسها ثماني طائرات من طراز اف 15، قامت بقصف مفاعل تموز ودمرته تماماً، في حين صُنع الحدث الثاني في أجواء احتفالية داخل مفاعل بوشهر، شهدها العالم أجمع لأنها بثت مباشرة على الهواء.

إسرائيل اعتبرت المفاعل العراقي مصدر خطر على أمنها، وهي تنظر إلى مفاعل بوشهر الإيراني نظرة مشابهة، إلا أنها تصرفت في الحالتين تصرفاً مختلفاً. فقد دمرت المفاعل العراقي، واكتفت بالتصريح بأن المفاعل الإيراني غير مقبول لديها، هذا على الرغم من أن كفاءة المفاعل العراقي لإنتاج القدرة الكهربائية كانت 40 مليون واط فقط، في حين تبلغ قدرة المفاعل الإيراني 1000 مليون واط. هكذا وجدت إسرائيل نفسها، كما هو حال الدول الأخرى، في موقع المتفرج على ما يجري.

الطموحات النووية الإيرانية ليست جديدة، فهي ترجع إلى بدايات سبعينات القرن المنصرم، حين كان شاه إيران يتمتع بدعم غير محدود من الغرب ويتصرف من منطلق أن إيران قوة إقليمية عظمى ينبغي أن تتوافر لها مقومات دوام هذه القوة وقواعد تعزيزها.

فقد وضعت طهران خططاً طموحة جداً للحصول على القدرة الكهربائية عن طريق المفاعلات النووية، تصل إلى 20 ألف مليون واط في عام 2000، وذلك عن طريق التعاقد مع شركات غربية كانت باكورتها عقود بناء مفاعلين في بوشهر قدرة كل منهما 1200 مليون واط، لم تسمح ظروف كثيرة بإتمامهما.

مفاعل بوشهر الذي جهزته روسيا، مخصص لإنتاج القدرة الكهربائية وخضعت جميع مراحل تأسيسه لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم تعترض الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على البدء بتشغيله، لأنه لا يشكل مصدراً للخطر على أحد. إلا أنه من جانب آخر يساعد طهران على خلق كوادر متطورة في التكنولوجيا النووية تستطيع تنفيذ برامج طموحة.

هناك احتمال قائم لأن يصبح هذا المفاعل مصدراً لقلق البعض، في حال انسحاب إيران من اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية وإلغاء الاتفاقية مع روسيا التي تلزم طهران بإعادة الوقود المستخدم إليها دون مساس.

عند ذاك يصبح مفاعل بوشهر جزءا من البرنامج النووي الإيراني الذي يقلق الغرب، وذلك لأن طهران سيتوافر لها مصدر آخر للحصول على المواد الانشطارية، وهو البلوتونيوم 239 الذي يستخلص من الوقود المستعمل.

وفي هذه الحالة لن تكون طهران بحاجة إلى روسيا أو غيرها لتجهيزها بقضبان الوقود، وذلك لأن نسبة اليورانيوم 235 في هذا الوقود لا تزيد على 3%، وقد نجحت طهران في تخصيب اليورانيوم إلى هذه النسبة.

توضع قضبان الوقود عادة في قلب المفاعل لمدة تتراوح بين ثلاث إلى أربع سنوات، وقد يستبدل جزء منها سنوياً، حيث يتولد البلوتونيوم من تفاعل النيوترونات مع نظير اليورانيوم 238 الذي تبلغ نسبته في الوقود 97%.

ووفق توقعات المختصين بالهندسة النووية، سيكون مفاعل بوشهر قادراً على إنتاج ربع طن من البلوتونيوم سنوياً، وهو مقدار يكفي لصنع ما يقرب من 30 قنبلة نووية من طراز القنبلة التي ألقيت على مدينة ناغازاكي.

إلا أن المخاوف من هذا السيناريو قد تتراجع، إذا أخذنا بنظر الاعتبار بعض القضايا الفنية ذات الصلة، فالبلوتونيوم المنتج في المفاعلات التي تعمل بالماء الخفيف، كما هو الحال مع مفاعل بوشهر، غير نقي فهو يتكون من أربعة نظائر أبرزها البلوتونيوم 239 بنسبة تقرب من 60%، في حين لا تقل نسبته في السلاح النووي عن 93%.

العائق الهام أمام استخدام البلوتونيوم الجاهز هذا في صناعة سلاح نووي، هو وجود النظير (بلوتونيوم 240) بنسبة تقرب من 6%، وهي نسبة عالية لا تسمح بصناعة سلاح نووي يمكن الركون إليه، فقد يتفجر تلقائياً، لأن هذا النظير من خصائصه المعدل العالي لقدرته على الانشطار تلقائياً.

هناك بالطبع إمكانيات تقنية لتلافي هذه الإعاقة، وذلك عن طريق القيام بتخصيب هذا البلوتونيوم، وهي عملية مشابهة إلى حد كبير لعملية تخصيب اليورانيوم، إلا أن الصعوبة فيها هي أن المعلومات عن كيمياء وفيزياء البلوتونيوم لا تتوافر بالقدر الذي تتوافر به المعلومات عن كيمياء وفيزياء اليورانيوم.

الحقيقة أن هذا التخوف ليس في غير محله، فعلاقة إيران الإسلامية مع المجتمع الدولي غير ودية، وهي أقرب إلى المشاكسة منها إلى التفاهم، وهي على أي حال ليست علاقة طبيعية تضفي على المنطقة الأمن والاستقرار.

وقد انطلق بعض الأصوات داخل المؤسسة الحاكمة في طهران، تدعو إلى الانسحاب من اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، حين دخلت طهران في مشادات الأخذ والرد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول تخصيب اليورانيوم.

كما أن التوتر لم تخف حدته. ففي تحد جديد لإرادة المجتمع الدولي، أعلنت طهران في السادس عشر من أغسطس الجاري أنها بصدد بناء 10 مواقع جديدة لتخصيب اليورانيوم، في مناطق جبلية محصنة طبيعياً لحمايتها، وسيبدأ البناء في مارس من العام المقبل.

السياسة التي اختطتها طهران لنفسها، قد خلقت أجواء تشكك بالنوايا الحقيقية التي تكمن وراء إصرارها على المضي قدماً ببرنامجها النووي، وهو مما ليس في صالحها. فقد برهنت التجربة العراقية على أن السعي للحصول على أسلحة تدميرية عالية القدرات، لم يعزز الأمن الوطني للعراق بل أضعفه حين أصبح، بسببه، مستهدفاً من قبل الأسرة الدولية، مما أدى في النهاية إلى سقوطه وتدميره.

الأسرة الدولية لم تقف ضد طموحات طهران في الحصول على القدرات النووية السلمية، وفق قواعد اللعبة الدولية، فهل ستخفف طهران من غلوها أم لا؟.. أم إلى أين ستتجه بعد بوشهر؟