مهنا الحبيل

بات من المؤكد أن مساحة الإعلام القيمي‮ ‬تتوسع بصورة كبيرة وتكسب مساحة إضافية من الجمهور العربي‮ ‬وعلى سبيل المثال ذكر في‮ ‬برنامج‮ ''‬حجر الزاوية‮'' ‬للشيخ سلمان العودة أن استطلاعات هذا العام أظهرت تفوق عدد جمهور البرنامج على جمهور‮ ''‬طاش ما طاش‮''‬،‮ ‬كون الأخير كان‮ ‬يسجل أكثر البرامج مشاهدة‮. ‬وسواء صحت هذه الإحصائية أو لم تصح فإن دلائل نجاح البرنامج وثباته وتطوره لا تقف عند الاستطلاع النسبي‮ ‬للجمهور إذ إن من الممكن أن‮ ‬يَكثر المشاهدون للبرنامج الكوميدي‮ ‬كتسلية لكن وعيهم ومتابعتهم وقناعتهم تكون أكثر احتراماً‮ ‬وسماعاً‮ ‬وإفادة للبرنامج القيمي،‮ ‬وهنا جعلنا هذا المقارنة كمدخل رئيس لإدراك التطور بين المسارين مسار الفن للفن ومسار الإعلام رسالة‮.‬
والإعلام القيمي‮ ‬المقصود‮ ‬يحتوي‮ ‬مسارات عدة من البرامج محافظ وتجديدي‮ ‬وليس المقصود القنوات الإسلامية فقط ففي‮ ‬حين تتصدر الساحة قنوات الرسالة وخاصة الشيخ النابلسي‮ ‬ود.طارق السويدان وعمرو خالد وقناة اقرأ وجانب‮ ‬يسير من قناة دليل‮ ‬يضاف إليها برامج نوعية كبرامج الشيخ سلمان في‮ ‬رمضان وغيره وخواطر الشقيري‮ ‬وبيني‮ ‬وبينكم للدكتور العوضي‮ ‬وافتحوا الأبواب د.العمري‮ ‬وبرامج أخرى لا نستطيع حصرها،‮ ‬إنما قصدنا التمثيل فيما‮ ‬يصنف برنامج الوعظ التقليدي‮ ‬المجدد أو القديم في‮ ‬سلة أخرى من البرامج ويتأرجح الشيخ نبيل العوضي‮ ‬ود.محمد العريفي‮ ‬بين المسار المحافظ المُجدّد في‮ ‬أسلوبه والتجديدي،‮ ‬وتستمر قناة المجد كقائدة مركزية للمسار المحافظ من الإعلام القيمي‮ ‬مع عدد كبير من القنوات التي‮ ‬نشأت في‮ ‬مشاريع لأصحاب توجّهات دعوية وهذه السّلة من القنوات والبرامج لاتزال لها جمهورها وإن تراجعت في‮ ‬تقديري‮ ‬عن الوصول لخارج الشرائح المحافظة لأسباب فكرية وإدارية معاً‮.‬
لكننا هنا نركز على مسار الإعلام القيمي‮ ‬التجديدي‮ ‬الذي‮ ‬أضحى في‮ ‬تقديري‮ ‬يمثل ظاهرة تفرض نفسها على الساحة الإعلامية ذاتياً‮ ‬وتكسب جمهورها وتنافس الإعلام الآخر ويزداد عدد المتابعين لها والأهم حجم التطور الذي‮ ‬برز بصورة كبيرة في‮ ‬أكثرها وتركّز في‮ ‬نماذج بكثافة أعلى،‮ ‬فحجر الزاوية تَحوّل إلى التوسّع في‮ ‬مدارات فكرية وإنسانية وحتى سياسية هذا العام بلغة دبلوماسية حذرة وراقية واخترق كل الشرائح المتابعة للتلفزيون رغم أنه في‮ ‬قناة محسوبة على مسار الفن للفن وواضح أنه في‮ ‬صدارة واهتمام المشاهد السعودي‮ ‬والخليجي‮ ‬العربي،‮ ‬فيما استطاع الشقيري‮ ‬أن‮ ‬يتقدم خطوات كبيرة في‮ ‬استقطاب شرائح شبابية وكهلة من الجنسين ويحول برنامجه إلى مشروع ذاتي‮ ‬يجذب الإنسان العربي‮ ‬موسمياً‮ ‬إلى ظاهرة أسلمة السلوك العام أخلاقياً‮ ‬ومنهجياً‮ ‬وفقاً‮ ‬لمفهوم التقدم الراقي‮ ‬في‮ ‬حياة الفرد أي‮ ‬أن الشقيري‮ ‬يُبشّر بالمفاهيم الإسلامية من خلال العمل والخلق السلوكي‮ ‬المنتظم وليس الوعظ وفي‮ ‬جاذبية كبيرة ذكية لا‮ ‬يشعر معها المشاهد بالملل وينتظرها مساء اليوم التالي‮.‬
وأصبحت قناعة المشاهد العربي‮ ‬تتزايد بهذا المفهوم أي‮ ‬التدين من خلال حسن السلوك مع الخلق والحياة وتطوير أداء الإنسان لوظائف الحياة العامة وإن كان عليه أن‮ ‬يحذر من أن‮ ‬يطوف ببرنامجه عند كل تجربة‮ ‬يُدعى إليها وهي‮ ‬غير متكاملة شروط النجاح والإبداع،‮ ‬لكن الشقيري‮ ‬كان دقيقاً‮ ‬جداً‮ ‬هذا العام حين نقل المشاهد العربي‮ ‬إلى مفهوم مهم‮ ‬يعيد التذكير بوجود نجاحات تاريخية قيادية للمشرق العربي‮ ‬الإسلامي‮ ‬ومتقدمة عن الغرب حين كانوا‮ ‬يعكسون مفاهيم الإسلام الحضارية والأخلاقية وهي‮ ‬رابطة مهمة تضبط حركة الوعي‮ ‬عبر المنهج وليس من خلال عقيدة نبذ المشرق العربي‮ ‬ونسف أي‮ ‬جهد تاريخي‮ ‬لها والاصطفاف مع ثقافة الهزيمة النفسية التي‮ ‬يعاني‮ ‬منها بعض المثقفين أو ردود الفعل المنهارة من واقع التراكم المتخلف للشرق الإسلامي‮. ‬
وفي‮ ‬العديد من الأعمال التي‮ ‬تُقدّم في‮ ‬هذه البرامج للإعلام القيمي‮ ‬يُلاحظ موسوعية وتطور وانتقال مهم للخطاب الفكري‮ ‬نحو فكر النهضة الإسلامي‮ ‬في‮ ‬مسارات عدة،‮ ‬بمعنى أنّ‮ ‬الإعلام القيمي‮ ‬أضحى‮ ‬يُجسّد للجمهور العربي‮ ‬حركة توعية منظمة ومرتبة لإعادة فهم الخطاب الإسلامي‮ ‬مع التسليم بأن مسارات مهمة لا‮ ‬يقترب منها هذا الإعلام لظروف سقف الحرية المتاح،‮ ‬لكنه‮ ‬ينهض بأفق الإنسان المسلم وتوجهاته في‮ ‬مسار موسوعي‮ ‬سيشكل في‮ ‬نهاية المطاف ركيزتين مهمتين لعهد الثقافة العربي‮ ‬الجديد الأول تكثيف الإعلام القيمي‮ ‬البديل بصورة جاذبة لا طاردة والثاني‮ ‬المعالجة الذاتية لما علق من انحراف في‮ ‬الخطاب الديني‮ ‬وتصحيحه وبناء قاعدة فكرية ثقافية جديدة للوعي‮ ‬الإسلامي‮ ‬العربي‮.‬


التحدي‮ ‬الكبير


لكن ومن المهم جداً‮ ‬للغاية أن‮ ‬يعرف الجميع أن هذا الإعلام ليس معصوماً‮ ‬وإن الأخطاء واردة عليه اجتهاداً‮ ‬أو انحرافاً‮ ‬وبالتالي‮ ‬يجب الحذر من المبالغة بالتزكية وأيضاً‮ ‬الحذر من ردة الفعل حين‮ ‬يُكتشف خطأ أو انحراف لهذا الطرف أو ذاك بحيث لا تنسف التجربة لخلل لدى البعض،‮ ‬ومن هنا من المهم جداً‮ ‬على المشتغلين بالإعلام القيمي‮ ‬أن‮ ‬يعالجوا قضية نظرة الرأي‮ ‬العام للدخل المادي‮ ‬المترتب على هذا البرامج بموضوعية صريحة ومنصفة وواضحة وهو ما سبق أن ذكرته وأكرره هنا أن‮ ‬يعلن كل أولئك المشايخ والأساتذة والمربون الفضلاء أنّ‮ ‬العمل في‮ ‬هذا النطاق هو وفقاً‮ ‬لمتطلبات السوق الإعلامية ولا حرج أن‮ ‬يقال بكل وضوح أن المبالغ‮ ‬التي‮ ‬يتقاضونها هي‮ ‬كبيرة في‮ ‬أحيانٍ‮ ‬كثيرة وفقاً‮ ‬لأسعار السوق الإعلامية،‮ ‬وإن هذا العمل المباح شرعاً‮ ‬وعرفاً‮ ‬يمارس لديهم بكل شفافية وهو كسب في‮ ‬إطار عمل تجاري‮ ‬مشروع ويبقى النية الخاصة بين الإنسان وربه لا‮ ‬يستعطف بها الناس ولا‮ ‬يكذب عليهم ولا‮ ‬يحاول أن‮ ‬يقلل مما‮ ‬يتقاضاه،‮ ‬لكن‮ ‬يقول أنا أعمل ضمن عقد وما بيني‮ ‬وبين ربي‮ ‬أرجوه في‮ ‬الدار الآخرة وليس ثناءً‮ ‬من الناس لادعاء التطوع في‮ ‬العمل،‮ ‬غير أنّ‮ ‬من المهم أن‮ ‬يسعى أولئك الفضلاء لأن‮ ‬يتواضعوا للناس في‮ ‬المحاضرات الشعبية والأهلية ولا‮ ‬يشترطون عليهم مبالغ‮ ‬تُحوّل ذواتهم لمكائن دخل إنما‮ ‬يجعلون هذه المشاركات ضمن مساهماتهم لمجتمعاتهم وأثراً‮ ‬من خطابهم القيمي‮ ‬للناس ليعضد القول بالعمل فيكون عملهم شاهداً‮ ‬لأقوالهم لا ناقضاً‮ ‬لها.