وليد نويهض

في حديثه إلى صحيفة laquo;الحياةraquo; الإثنين الماضي قال الرئيس العراقي جلال طالباني إن هناك laquo;توافقاً من دون تنسيق بين الأميركيين والإيرانيين والسوريين على تسلم نوري المالكي رئاسة الوزراءraquo;. فهل صحيح أن التوافق هو نتاج توارد الأفكار أو حلم ليلة صيف أو أحلام يقظة اتجهت من دون تنسيق نحو عنوان واحد أم أن الأمر يعكس تقاطع مصالح التقت على نقطة مشتركة توافقت الأطراف على أنها تشكل ضمانة أمنية - سياسية في مرحلة ما بعد تموضع قوات الاحتلال والانسحاب الأميركي من بلاد الرافدين؟

فكرة laquo;من دون تنسيقraquo; تحتاج إلى تدقيق لأنها تتعارض مع كلام آخر يتحدث عن لقاءات laquo;فنيةraquo; و laquo;تقنيةraquo; يتم خلالها تبادل المعلومات وملاحقتها ميدانياً خلال السنوات الأربع الماضية. والتوافق على اسم المالكي ليس مصادفة أو نتاج توارد الأفكار وإنما هو أحد إفرازات تلك اللقاءات السرية أو العلنية في بغداد وعواصم أوروبية جرت مباشرة أو بالواسطة أو من خلال رسائل تناقلتها laquo;أطراف ثالثةraquo;.

الأقرب إلى المنطق أن يكون التوافق على المالكي جاء نتاج التنسيق وبناءً على تجربة ميدانية تأسست قواعدها التنظيمية في عهد تيار laquo;المحافظين الجددraquo; وتوقفت جزئياً بعد فوز باراك أوباما بالرئاسة ثم عادت للنشاط مجدداً بعد أن تراجعت الإدارة الأميركية عن سياسة المفاوضات المباشرة (وجهاً لوجه). فالتفاوض غير المباشر يبدو أنه يشكل الإطار المفضل لترسيم حدود التوازن المطلوب تحقيقه في العراق ما بعد مرحلة الاحتلال. وهذا النوع من التفاوض غير العلني يعطي الأجهزة دورها الميداني في ترتيب العلاقات من دون حاجة للظهور في المشهد وأمام العدسات.

الصورة ليست كاريكاتيرية لأن الواقع الذي أنتجه الاحتلال أدى إلى تشطير العراق إلى أجزاء، جزء يتعامل معه، وجزء يستفيد منه، والآخر تضرر من سياسته. وبحسب هذه القسمة الثلاثية يصبح الاحتلال بحكم الضرورة حليف المتعامل والمتعاون والمستفيد وعدو المتضرر منه ومن تداعيات احتلاله. وبهذا التبسيط يمكن قراءة المشهد العراقي وكيف تفرع وانشطر مذهبياً وتوزعت قواه بين متعاونين ومستفيدين ومقاومين ونازحين داخلياً أو إلى دول الجوار (الأردن وسورية).

هذا المتغير الجيوسياسي الذي أدى إلى تشكيل توازنات إقليمية رسمت خريطة طريق لتحالفات وتفاهمات تحكمت في مفاصلها ضرورات أمنية ومخاوف عسكرية تأسست عليه قراءات متفاوتة في التحليل والتوقعات. فهناك من قرأ إسقاط النظام السابق وتقويض الدولة العراقية أنه جاء لمصلحة إيران لأن واشنطن ساعدتها في إزالة عقبة في وجه انتفاخها الإقليمي وتمددها الجغرافي. وهناك من قرأ المتغيرات بأنها جاءت على المدى البعيد ضد سياسة إيران في اعتبار أن الولايات المتحدة أنزلت قواتها ونشرتها على حدود الجمهورية الإسلامية ما يعني أنها أصبحت قوة دولية مجاورة تهدد النظام بالسقوط في اللحظة التي تحددها.

الاختلاف في القراءة يفسر ذلك التضارب في التوجهات المعلنة (تبادل رسائل التهديد والوعيد بالحرب) والاتصالات الميدانية (التنسيق الفني والتقني) على مستوى لقاءات الأجهزة وتبادل المعلومات والتوافق على تهدئة الساحة أمنياً ومحاصرة المحافظات المتمردة على الاحتلال. فالتضارب يعطي فكرة عن طبيعة الاختلاف في القراءة بين تيار أميركي يطالب بالتنسيق مع إيران لضبط الساحة في مرحلة الانسحاب وبين تيار يرفض التسليم بالنتائج الميدانية التي ترتبت وجاءت لمصلحة طهران ونمو نفوذها في بلاد الرافدين.

التعارض بين التوجهين يفسر إلى حد كبير عدم وضوح صورة العلاقة المتنامية من جهة والمتضاربة من جهة بين واشنطن وطهران. والغموض في إطاره الإعلامي (دعوات للحرب مقابل دعوات للتفاوض) لا يلغي احتمال وجود تنسيق ميداني laquo;فنيraquo; و laquo;تقنيraquo; يتضمن الكثير من الأوراق من بينها ورقة المالكي في اعتبار الأخير محطَّ ثقة للإدارة الأميركية بعد تعاون ناجح معه امتد على السنوات الأربع الماضية.

إيران من جانبها لا تنفي مساهمتها أو مساعدتها أو سكوتها على الاحتلالين الأميركيين في أفغانستان والعراق. وإذا كان هذا الادعاء فيه شيء من الصحة فإنه يصبح من المنطقي والمعقول أن تواصل حسناتها من خلال التنسيق وترتيب خطوط التفاهمات وتوسيع شبكة العلاقات الأمنية والفنية. فمن يقول إنه ساعد في تسهيل الهجوم على أفغانستان والعراق لا يتردد في استكمال المساعدة في تسهيل الانسحاب من أفغانستان والعراق.

بهذا المعنى التبسيطي يمكن تركيب أجزاء الصورة للتعرف على حدود الخلاف والتقاطع بين طهران وواشنطن في المجال الجغرافي الممتد من كابول إلى بغداد. فالخلاف ليس بالضرورة ينحصر في الملفين باعتبار أن أميركا موافقة على تقديم المساعدة وتسهيل الانسحاب من الجانب الإيراني وإنما يمكن تلمسه في جوانب أخرى غير مرئية في الصورة. الخلاف بين الطرفين على ملفات أخرى لا يلغي احتمال التقاطع (التنسيق) في الساحتين الأفغانية والعراقية.

التبسيط يساعد أحياناً على توضيح ملابسات الصورة. أميركا من جهتها تتعامل مع إيران بوصفها دولة إقليمية عادية عندها طموحات تتجاوز حدودها وهي في هذا الإطار لا تمانع في تقديم تنازلات مدروسة لاحتواء فائض القوة الذي تمتلكه. إيران (النظام) ترى من جهتها أنها دولة كبرى تريد أن تشارك الولايات المتحدة في وضع خطط وبرامج لاستيعاب مشكلات العالم ومن ضمنه laquo;الشرق الأوسط الكبيرraquo; وكل ملفاته الممتدة من محيطه إلى خليجه.

الخلاف والتقاطع يسيران جنباً إلى جنب لذلك تصدر عن واشنطن دعوات متعارضة بين العقوبات والحرب الإلكترونية وفرض الحصار البحري وبين اللقاءات الميدانية لتبادل المعلومات والتنسيق المخابراتي بشأن الملف الأمني في أفغانستان والعراق واحتمال تطور التفاهم إلى نوع من الاتفاق على حدود البرنامج النووي وأبعاده في ضوء نتائج الاجتماعات المقرر عقدها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.

الاحتمالات إذاً مفتوحة وهي في منطقها لا تتعارض مع مساري الاختلاف والتفاوض لأن المسار الأول له علاقة بطموحات إيران التي تتجاوز حدود قدرة واشنطن على الاستيعاب والتحمل، بينما المسار الثاني تفرضه الوقائع والضرورات الميدانية من دون مبالغة تساهم في انكسار منظومة العلاقات الإقليمية.

بين الاختلاف والتقاطع ترتسم أحياناً خطوط المصالح وتتداخل وتتفارق بين عقوبات من جانب وتنسيق من جانب لتحديد الخيارات الموضعية كما هو حال التفاوض بشأن اعتماد المالكي بوصفه المفوض المكلف للإشراف على مرحلة الانسحاب التي وقّع أوراقها في نهاية عهد جورج بوش.

كلام طالباني عن توارد الأفكار بشأن اختيار المالكي لتسلم رئاسة الوزراء ليس موفقاً، لأن مؤشرات التدقيق في مجرى التطورات المتراكمة في العراق تؤكد ارتفاع بورصة التنسيق بين طهران وواشنطن في إطار مضمار السباق الإقليمي ومدى تأثير القوى على تركيب صورة بلاد الرافدين في مرحلة ما بعد الانسحاب.