بدر عبدالملك

ليس هذا العنوان له علاقة بالمصطلح والاصطفاف العالمي الجديد لزمن العولمة لمسألة الصراع بين الشمال والجنوب، وليس أيضا له علاقة برواية الطيب صالح موسم الهجرة للشمال، غير اننا هذه المرة تخيلنا لو إن الروائي السوداني كان حاضرا يعايش هجرة مختلفة ولكنها من الداخل، أكثر ما يمكن وصفها بمأساة عملية النزوح المستمرة الداخلية في السودان في العقود الأخيرة واغلبها كان بسبب الحروب الأهلية وسوء إدارة النظام لتناقضاته وتنميته.
موسم الهجرة هذه المرة ستكون ارتحال الجنوبيين من الشمال إلى الجنوب والشماليين من الجنوب إلى الشمال لسببين إما بسبب الاستفتاء والخشية من أمور سياسية لاحقة أو أنها تداعيات لعملية نزوح قادمة، عندما يكتشف السودانيون الذين عاشوا في وطنهم دون التفكير بأنهم ينتمون للجغرافيا بقدر ما كانوا ينتمون للقبيلة والولاية والحزب والدين، وبسبب تداعيات نتائج الاستفتاء آجلا أو عاجلا ستحدث تشابكات بين الأقلية المسلمة الصامتة في الجنوب والأكثرية المسيحية في الشمال، مما سيؤدي إلى صدام عنيف ودموي، يدفع بالشماليين للانتقام من الجنوبيين في حالة وجودهم في مناطق الشمال، ولهذا يعيش السودانيون حالة من القلق والترقب والسيناريوهات المجهولة لحالة بلد سيكون بعد التاسع من يناير عام 2011 بلدين أو سودانيين لا سودان واحد ، وبدلا من أن يكون هناك نائب رئيس من الجنوب ورئيس من الشمال، فان أهل الجنوب يميلون ان يكون رئيسهم مستقلا وندًا لرئيس الشمال، ويتعاملان كبلدين مختلفين ومتجاورين تجمعهما اتفاقيات دولية وتربطهم علاقات متكاملة داخل المنظمات الإقليمية.
في التاسع من يناير وقف في طابور طويل الجنوبيون ليدلوا بصوتهم نحو الانفصال ـ دون ريب - إذ لم تكن السنوات الست الانتقالية أو التجريبية أو التمهيدية إلا تجربة مريرة بين الشمال المركز والجنوب الطرف المهمل والفقير والأكثر شعورا بالتمييز في المركز والوظائف العليا كلما أراد التنافس من اجل الوصول إلى وضع لا يعرف التمييز والإقصاء. لن يستطيع دعاة الوحدة في الجنوب إبداء رأيهم بكل وضوح وكثافة لكونهم يدركون إن ذلك التصويت مع الوحدة له تبعات سلبية بعد خيبتهم وميل الاستفتاء للانفصال بأغلبية كبيرة، تدفع بكل وضوح الدوائر الغربية دون استثناء نحو الانفصال. وإذا ما كان الانجليز هم سادة ترسيم خارطة أفريقيا مع الاستعمار الأوروبي القديم في القرون الأربعة الأخيرة، فان مهندس الخارطة في الألفية الثالثة هذه المرة الولايات المتحدة، المتسيدة دون منافس، إذ تتربع الولايات المتحدة وراء كل الخرائط الجديدة في عصر العولمة، بل وتمارس قوة الدفع والانحياز لجعل الدول الجديدة مرتكزات جديدة لإسرائيل وغيرها، دون أن تسمح بسلبها حق أن تكون اللاعب المتميز في تلك الساحة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة اليوم المعنية بصياغة لعبة حق تقرير المصير ولعبة حقوق الإنسان والديمقراطية والاستئساد المصطنع للدفاع عن حقوق الأقليات في العالم، انطلاقا من المبدأ نفسه laquo;حق تقرير المصير وحقوق الإنسانraquo;.
ما رصدته شعوب وقبائل الجنوب في حكومة الشمال، من فتاوى وتصريحات وممارسات وجلد وأحكام إزاء النساء والتدخلات الفظة في قضايا كثيرة من قبل التيارات المتشددة، دفعتهم للإصرار أكثر نحو الاستقلالية الكاملة والانفصال، بحيث تصبح الثروة والقرار السياسي كاملا بيد الجنوبيين وهم يديرون دولتهم بأنفسهم، دون الحاجة لأن يصبحوا أتباعا للشمال وحكومته المركزية، التي لم ولن تكون مستقرة أكثر بعد نتائج الاستفتاء والانفصال!! إذ على laquo;سودان ما قبل الانفصالraquo; أن يعيد تركيبته بعد الانفصال وإعادة صياغة دستوره وطبيعة نظامه، وهذا ما تدعو إليه المعارضة السودانية حاليا، التي على اختلاف توجهاتها، اتفقت على محور مركزي هو ضرورة إسقاط نظام البشير، دون أن تحدد أدواته ووسائله، وإن كانت عملية العصيان المدني والانتخابات والنهج الديمقراطي السلمي سيكون خيارها. كيف سيخطو السودان الجنوبي مع نظيره الشمالي لاحقا كدولة مجاورة انسلخ بعضهما البعض عن تاريخهما الاستعماري القديم؟ كما لم تستطع توثيق فكرة السودان الموحد القائم على توزيع عادل وديمقراطي طوال تلك العقود، مما ترك جرحا عميقا لدى الجنوبيين استمرت أثاره في تلك السنوات الخمسة والعشرين من حربهم ضد حكومة الشمال ودفع الجميع ثمنها باهظا.
بعد الاستفتاء الحتمي نتائجه - الانفصال - سنجد العلم الجديد يرفرف في سفاراتها في العالم وكعضو في منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وقد يكونون أيضا جزءاً من الجامعة العربية كإخوتهم من الصوماليين والجيبوتيين. المتباكون بنزعتهم القومجية على واقع الانفصال لم يسألوا أنفسهم يوما لماذا هم يقررون حق تقرير مصير الغير في مؤتمراتهم وندواتهم؟ وكأنما لا يوجد شعب هناك له حق الاختيار في الانفصال أو الوحدة وذلك ابسط مبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها.
السودان ليس البلد الوحيد في العالم الذي يشهد استفتاءً ولن يكون الأخير، بل هناك من الملفات الكثيرة تاريخيا تدلل على أن المنطق الطبيعي لعدم التوافق هو الانفصال، كما كتبها السوداني على سيارته laquo;الطلاق بالثلاثةraquo; وكانت رسالة واضحة لحكومة الشمال، ونحن نراهم يتدفقون من الشمال إلى الجنوب طوال شهور كاملة رغم صعوبة المواصلات والفقر المدقع للمنتقلين الجنوبيين من الشمال نحو بلدهم الجديد القادم.
ستنتهي عملية الصراع لبناء بلد جديد في الجنوب وستبدأ بعدها الصراعات الداخلية فيه نحو مواقع الثروة والسلطة، وسيتم الفرز القبلي والحزبي، ولن تكون الديمقراطية الوليدة صمام أمان نهائيا، فما وحّد الجنوبيين خلال الست سنوات هو الهدف المركزي المشترك - الاستفتاء وبناء بلد ودولة جديدة مستقلة - ولكن بعد الانتهاء من الفصل ما قبل الأخير من المسرحية، فان الصراع الاجتماعي الطبقي سيكون المنطق الطبيعي للنظام الجديد. ومسمار الموت في نعش الأثرياء الجدد في الدولة الأفريقية الجديدة. أخيرا سيرقص الجنوبيون بطريقتهم دون رقيب أو فتوى دينية تردعهم، مثل كل الأقوام البدائية في القارة laquo;فالبامبو السودانيraquo; صار اكثر رواجًا في الجنوب من رواج الطرق الصوفية في الشمال على اقل تقدير بالمعنى الدلالي للواقع السوداني المنتظر.