محمد نور الدين

تقدم تركيا نموذجاً للمثابرة على التورط بمشكلات المناطق المحيطة بها، وهي اعتمدت في عهد حزب العدالة والتنمية سياسة ldquo;الدور الوسيطrdquo; لحل المشكلات المحيطة بها .

ومن شروط هذا الدور أن تكون على علاقة جيدة مع الأطراف المتنازعة . وبذلت تركيا جهوداً لذلك من خلال سياسة ldquo;تصفير المشكلاتrdquo; مع جيرانها، وهذا أتاح لها القيام بمثل هذه الأدوار بين سوريا وrdquo;إسرائيلrdquo;، وبين الفلسطينيين وrdquo;إسرائيلrdquo;، بل حاولت القيام بوساطات بين الفلسطينيين أنفسهم .

لكن العلاقات الجيدة مع كل الأطراف لم تكن السبب الوحيد الذي شجع تركيا على القيام بأدوار الوساطة، إذ هناك سياسة تركية جديدة من أجل أن يكون لتركيا دور فاعل ومؤثر في السياسات الإقليمية، بل الدولية حتى .

وفي السابق لم يكن للحكومات العلمانية، بل حتى تلك التي ترأسها أو شارك فيها إسلاميون مثل نجم الدين أربكان، مثل هذه المبادرات الوسيطة .

وتنطلق ldquo;دبلوماسية الوساطاتrdquo; أيضاً من قراءة جديدة لوضع تركيا الإقليمي ،وهو أن التحولات التي حصلت في المنطقة، ولا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول واحتلال العراق، قد غيّر في الظروف المحيطة بتركيا وجعلها أكثر تأثراً، بما يستدعي الانخراط في الحراك الإقليمي وعدم انتظار الحريق ليصل إلى الداخل التركي .

لكن نظرة إلى مجمل المشكلات التي وضعت تركيا إصبعها فيها لا نجد المحصلة اليوم برّاقة كثيراً .

فالوساطة بين ldquo;إسرائيلrdquo; وسوريا في الكوما . والوساطة بين الفلسطينيين وrdquo;إسرائيلrdquo; قرئت عليها الفاتحة منذ وقت طويل . أما الوساطة بين محمود عباس وحركة حماس فقد طمرت تحت ورود التمنيات . واليوم تبادر تركيا إلى محاولة التوفيق بين اللبنانيين في أزمتهم المستمرة منذ تأسيس الكيان اللبناني في العام 1920 .

ولقد حاولت تركيا في السنوات الأخيرة أكثر من مرة التوفيق بين اللبنانيين إما منفردة أو بالشراكة مع آخرين .

واليوم شاركت تركيا في قمة دمشق الثلاثية مع كل من أمير قطر ورئيس سوريا . وهو جهد محمود عشية ارتفاع منسوب التوتر في لبنان .

لكن ما يمكن ملاحظته أن القمة لم تسفر إلا عن تأكيد المسعى السوري - السعودي لحل الأزمة . والجميع بات يعرف أن هذا المسعى قد أعلنت وفاته من نيويورك، بعد اتصال العاهل السعودي بالرئيس السوري وإبلاغه عدم إمكانية الالتزام، لظروف قاهرة، بالتفاهمات التي تم الاتفاق عليها .

جاءت قمة دمشق الثلاثية بعد قمة عالمية متعددة الأطراف في واشنطن، شارك فيها على مراحل الرئيس الفرنسي والرئيس الأمريكي والعاهل السعودي ورئيس الحكومة اللبنانية ldquo;المقالةrdquo; والأمين العام للأمم المتحدة .

لا أحد يعرف فكرة من كانت القمة الثلاثية في دمشق، لكنها بالتأكيد كانت لrdquo;تقطيعrdquo; الوقت . فعندما يعلن طرفان مباشران بالأزمة اللبنانية، أي أمريكا والسعودية، فشل المسعى السوري - السعودي وعندما لا تكون السعودية طرفاً في القمة الإقليمية في دمشق، فأي نتائج يمكن أن تسفر عنها؟

ولا تكتفي تركيا بقمة دمشق الثلاثية، بل يجيء وزير خارجيتها الى لبنان للتخفيف من تأثيرات الأزمة . وهذا بالطبع جهد مشكور .

لكن الأزمة اللبنانية في مكان، والمساعي التركية وغير التركية في مكان آخر، إنه الصراع على المنطقة وأي وجه يجب أن تكون عليه في المستقبل .

إنه صراع بين منطقَيْ التقسيم والوحدة، بين منطق الاستقلال ومنطق الهيمنة الخارجية . ومنذ وعد بلفور ومن ثم إعلان تأسيس ldquo;إسرائيلrdquo; في العام 1948 كان المشهد واضحاً: احتلال العرب والمسلمين وتقسيم أراضيهم وكياناتهم . وفهم منطق الصراع والمواجهة بين الغرب والشرق هو الأساس في القيام بأدوار منتمية ومؤثرة، وأي جهد لا يهدف إلى تكتيل القوى لمواجهة السياسات الغربية - ldquo;الإسرائيليةrdquo; أو يسعى الى منطق التسويات التي لا تفيد سوى استمرار المشروع الغربي ldquo;الإسرائيليrdquo; فإنه جهد في الهواء .

وإذا كان البعض يرى في ذلك استحالة أو وَهماً بعيد المنال، فإنه يبقى أفضل من أن يكون جزءاً من حراك يدخل ldquo;الإسرائيليrdquo; والذهنية ldquo;الإسرائيليةrdquo;، وهذه أخطر، شيئاً فشيئاً في النسيج العربي والإسلامي .

لا نقول بإلغاء مبادرات الوساطة، لكن عندما يتعلق الأمر بقضايا تكون أمريكا طرفاً فيها فإن زاوية النظر إليها يجب أن تختلف في اتجاه استكمال عناصر القوة والثبات، وليس من أجل تمكين الآخرين، ولا سيما الخارج من مواصلة مشروعه التوسعي الذي ظهر في شمال العراق وفي اليمن، واليوم في السودان، واليوم يراد له أن يستكمل في لبنان . وهذا ما يجب أن تعرفه جيداً الدبلوماسية التركية .