محمد صالح ابو الحمايل

إنه حقل ألغام حقيقي، حين يرغب مواطن من طائفة أخرى أن يتصدى بالرأي والتحليل لموقع طائفة أخرى ودورها ونشاطها، ولي تجربة في هذا المجال، عندما كان الحديث في احدى الجلسات مع بعض الأصدقاء من الطائفة الشيعية، عن موقع الطائفة الشيعية ودورها في الكيان اللبناني، وعندما وصلت الى احدى مفاصل هذا الحديث، انتفض احدهم وهو يساري سابق، ليقول انه من الأجدى ان تقوم بنقد زعماء طائفتك، فتكتسب الصدقية بالنقد، بالرغم من ان هذا الصديق يعرف معرفة أكيدة أنني لا أنتمي إلى أي سياسات طائفية، وأن مناقشة قيادة الطائفة الشيعية بسياساتهم، انما تنبع من ان هذه الطائفة قد لعبت الدور الأكثر حركية في النشاط السياسي من دون الطوائف كلها على الخارطة الطائفية اللبنانية، منذ الثلثين الأخيرين من عمر الاستقلال، وهي ما زالت تعاني من سقطات هذا الحراك منذ العام 1975 تارخ تفجر الحرب اللبنانية أو قبلها بقليل، ما أريد أن أوضحه، هو أننا في هذه الظروف الصعبة من تاريخ لبنان لن يستطيع كاتب أو مفكر من خارج أي طائفة أن يدلي برأي حول طائفة لا ينتسب اليها على الرغم من أنني شخصيا وهذا بشهادة العديد من الأصدقاء من الطائفة الشيعية كنت شيعياً سياسياً ردحاً طويلا من الزمن، بالرغم من ذلك فاني أعتقد أنه بالرغم من هذا الاتهام الظالم الذي وجهه الى هذا الصديق، فانه لا بد لي من عرض تحليلي في هذا المجال، اعترافا بالدور الديموقراطي الذي لعبته الطائفة الشيعية في مرحلة ما عرف بالنضال الديموقراطي المطلبي، قبل تفجر الحرب الأهلية في سنة 1975، ومحاولة لسير حقيقة الواقع، وكيف آلت الأمور الى ماوصلنا اليه، مع الخطاب الديني والمذهبي الراهن.

كانت عملية التماس الأولى بين الطائفة الشيعية والنظام اللبناني الطائفي، بدأت على أثر النكبة الفلسطينية، التي دفعت بالفلسطينيين الى اللجوء الكثيف الى لبنان والدول العربية، ودفعت أيضاً سكان الجنوب اللبناني الى ما سمي بالنزوح الى الداخل اللبناني، وإلى العاصمة بيروت خاصة، وقد كان من مفاعيل نكبة ضياع فلسطين التي أهملت، تدمير الاقتصاد الجنوبي المستند الى علاقة وثيقة مع الاقتصاد الفلسطيني العربي، وإذا كان اللاجئون الفلسطينيون قد جرى تلقفهم بالمساعدات والاعانات من قبل الدول العربي وهيئة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فان اهل الجنوب قد تركوا ليواجهوا مصيرهم لوحدهم، وتحصيل معيشتهم بجهدهم الخاص، ومن ناحية أخرى، فاذا كانت قد طبقت قوانين صارمة بحق الفلسطينيين لمنعهم من العمل، فان الجنوبيين كانوا أحراراً في دخول سوق العمل وتحصيل معيشتهم منه بأنفسهم، وهذا ما سمح لهم بالانخراط في الحياة الاقتصادية والسياسية للمجتمع اللبناني، من ناحية أخرى، كانت عملية اللجوء الفلسطيني والنزوح الجنوبي، قد صبت دفعة واحدة في العاصمة بيروت التي كان قطاع الخدمات يتوسع فيها بشكل عامودي وأفقي دفعة واحدة، ولكنها لم تلبث أن اثقلت بالأعداد المتزايدة من النازحين الذين فاقت امكانات العمالة فيها القدرة على الاستيعاب على مر الأيام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كانت السلطة السياسية والنظام الطائفي في حال غيبوبة عن مواجهة هذا النزوح باقامة المشاريع التنموية البديلة لاستيعاب اليد العاملة النازحة الى المدينة في مواطنها الأصلية، وانقاذ البنية الاقتصادية في الجنوب، التي دمرها اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية. والحفاظ على هؤلاء المواطنين أعزاء في وطنهم وفي قراهم التي غادروها فأهملت من جهات عدة هم في طليعتها.
كان من مفاعيل هذا الاهمال المتعمد ان افتتح عهداً جديداً من العشوائيات العمرانية، وأسس لما بات يعرف فيما بعد بحزام البؤس المحيط بالعاصة، وكما حشر اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات حشر النازحون الجنوبيون في حزام بؤسهم، وهذا ما سوف يفسر طبيعة التحالف الذي سيقوم بين الطرفين في مرحلة قادمة، ومرة أخرى تواجه سلطة التحالف الطائفي للطائفتين المارونية والسنية quot;نظرياً ولكن عملياً باستئثار صريح وواضح من قبل الطائفة المارونيquot; هذا الوضع بتجاهله وعدم التدخل في ضبطه عن طريق اقامة مساكن شعبية تليق بالحياة البشرية، فكان أن تحولت تلك العشوائيات وحزام البؤس، الى بؤرة للثورة والتمرد، ولكن من خارج النظام القائم وأدواته ومؤسساته، التي بات من المؤكد أنها لا تقدم على أي عمل لحل مشاكلهم المعيشية، هؤلاء المواطنون الذين فاجأوا المجتمع والسلطة السياسية القائمة أنهم مواطنون شركاء في هذا الوطن بحضورهم، وبخطابهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الجديد، ونتيجة لشعور متزايد لدى هؤلاء بأنهم إنما يعيشون على هامش المجتمع، وأبواب النظام موصدة في وجههم، كان عليهم إقامة مؤسساتهم وتنظيم أنفسهم فيما عرف في الأنظمة الليبرالية بمؤسسات المجتمع المدني، من احزاب ونقابات، فشهدت الأحزاب اليسارية والقومية إقبالاً متزايداً من قبل هؤلاء النازحين، الذين ازدوجت معركتهم ضد النظام السياسي القائم، وضد زعاماتهم التقليدية التي اعتبرت متواطئة مع هذا النظام، ومن ناحية أخرى، جرى الخلط بين وظائف مؤسسات المجتمع المدني المستحدثة تلك، بشعاراتها الغربية، أوالمستغربة، من قبل قياداتها المثقفة والاغترابية التي غرقت في تفسيرات ايديولوجية صبيانية، كما يسميها لينين بمرض الطفولة اليساري، نتج عنها برامج بعيدة عن معالجة الواقع، فمن المعروف أن نشاط العمل الحزبي هو السياسة، اما النشاط النقابي فهو يسعى الى الارتقاء بوضع المهنة والعاملين فيها، لكن الذي حصل في هذا الوضع اللبناني المتميز ان السياسي والمهني كان شديد التداخل لحد الانصهار والتخريب، فكانت سيطرة الأحزاب على النقابات ما سهل دخول الدولة الى الجسم النقابي وتخريبه، في كل الأحوال وجدت الطائفة الشيعية ضالتها لممارسة نشاطها السياسي في مؤسسات المجتمع المدني تلك، وبمختلف التلاوين العقائدية والسياسية من شيوعية الى اشتراكية الى قومية، أما الخطاب السياسي لمختلف تلك الأحزاب فقد كان في ضرورة اسقاط النظام الطائفي، وإقامة نظام ديموقراطي علماني على انقاضه، وقد خاطب هذا الشعار، الطبقات الأكثر فقراً في الطوائف الأخرى المشاركة في السلطة واستقطب شرائح واسعة منها، كانت تتهاوى في السلم الطبقي يوماً بعد يوم، هذا الشعار الجامع لنشاط الطائفة الشيعية الموزعة بين تلك الأحزاب، كان هذا الشعار الجامع لتلك الأحزاب بالعمل على اسقاط النظام الطائفي يشير في حقيقيته الى ان الطائفة الشيعية المبعدة عن السلطة السياسي ذات المحاصصة الطائفية قد حسمت امرها في اسقاط النظام واستبداله بنظام غير طوائفي استناداً الى الشعارات والمطالب المرفوعة، ولكن من غير برنامج عملي واضح ومحدد
وبذلك تكون الطائفة الشيعية قد حملت لواء التغيير الديموقراطي ولكنها بأدواتها التنظيمية والأيديولوجية لم تستطع الوصول الى الهدف المرجو.
وصولاً الى الأزمة الوطنية والقومية الكبرى مع هزيمة العام 1967، في تلك اللحظة كان النظام الطائفي يتلمس حقيقة الأخطار المحيطة وجديتها، فسعى بشتى الطرق لاستيعاب هذه الحركة التي توجت بظهور الإمام موسى الصدر، كان أهم ما باشر به الإمام الصدر هو العمل على إقامة المؤسسات الدينية المستقلة للطائفة الشيعية، واستقطاب جماعات من كبار الملاك والتجار ورجال الدين الى حركته، أي أن سماحة الإمام الصدر قد أعاد رسم حدود الطائفة الشيعية quot;كطائفةquot; بشكل مغاير لما تكرس في السابق بامتيازها أنها طائفة عابرة للطوائف وغير معترفة بها كطوائف انما كمواطنين منهم الرأسماليون والاقطاعيون والعمال والمزارعين، إذن فقد أعاد الإمام الصدر رسم حدود الطائفة كطائفة، استعدادا للدخول في جنة المحاصصة الطائفية، هذه الدعوة لاقت القبول من طرفين، أولاهما الطبقة الوسطى للطائفة التي بدأت تتكون نتيجة النزوح الكثيف الى بيروت، فقد تزايدت أعداد المتعلمين فيها بشكل هائل، وبدأت هذه الطبقة تضغط من أجل ايجاد الحل السريع لوضعها الذاتي بعيداً عن المهام الثورية التي لم تنتج أي شيء لسنوات طويلة، أما الطرف الآخر فقد كان تحالف السلطة القائمة التي رأت في حركة الإمام الصدر فرصة ذهبية لاستيعاب الطائفة، فمدت إليه يد العون والمساعدة، لتصبح الطائفة الشيعية هي الطائفة الثالثة المكونة للنظام السياسي الطائفي، وحصل محروموا الطائفة من الطبقة الوسطى على حقوقهم في الوظائف وامتيازات جنة الحكم، وأقفل على الشعار الذي رفع عن المحرومين، ولكن هل حقيقة حصلت الطائفة على حقوقها، الوقائع تقول أنه في الوقت الذي حلت فيه الطبقة الوسطى الشيعية مشكلتها، بقيت الطائفة بسوادها الأعظم تعاني من الفقر والتخلف، فبقاء حزام البؤس حول بيروت وموت الزراعة والصناعة والتنمية في الجنوب والبقاع، وهذا الكم الهائل من الخارجين على القانون، يشير الى أن المشكلة لم تحل بعد، على الصعيد الجماهيري هذا ما آلت الأمور إليه، أما على الصعيد السياسي فقد كانت الدعوة الى نبذ العنف وعدم الاحتكام الى منطق الثور هو ما أعطى للحركة بعدها السياسي وتصالح الطائفة مع النظام، وكان من أبرز المنظرين لهذا الاتجاه هو العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي كان خير معبر عن برنامج الإمام السياسي، حيث كان يدعو الى الانخراط في النظام السياسي اللبناني بشكل خاص وبالأنظمة العربية بشكل عام، دون التطرق الى تغيير طبيعة هذا النظام الطائفي، بل والعمل على تغذيته بدم طائفي جديد وبرفده بقوى إضافية، سوف تؤدي الى إنقاذ هذا النظام من مصيره المحتوم الذي أصبح قام قوسين أو أدنى، بفضل الحراك الثوري والديموقراطي للقوى الشعبية الشيعية وطبقتها الوسطى، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في النشاط السياسي للطائفة الشيعية، وبدأ تبديل الشعارات، فبدلاً من شعار إسقاط النظام الطائفي برمته وتوحيد كافة الطوائف ومساواتها كمواطنين في السلطة السياسية وفي الحقوق والواجبات، رفع شعار quot;طائفة المحرومينquot; فكان ردة واضحة وتخلٍ صريح عن الشعارات السابقة، وتقديم طلب دخول وانتساب الى النظام السياسي الطائفي القائم، بكل شروطه المكونة، ما لبث النظام القائم أن تلقف هذا النهج الجديد وبدأ التعامل معه كشريك محتمل في السلطة، فبدلا من إسقاط النظام برمته، وجد النظام نفسه أمام أهون الشرين بقبول شريك جديد في ناديه، الذي سوف تنفتح شهيته على المزيد من المشاركة وطلب المزيد في حصة السلطة.
quot;حزب اللهquot; الدخول في الطائفة، الخروج من الوطن
انه من الواضح أن quot;حزب اللهquot; قد عمل على إخراج الطائفة الشيعية من الوطن بعد أن أدخلها الإمام الصدر فيه، والتي كانت تسعى إليه حتى في مرحلة ما قبل quot;الصدريةquot;، والحقيقة أن عوامل عدة قد لعبت الدور الأساس في هذا الانقلاب على التاريخ وعلى التطور المنطقي والمفهوم للتحولات التي شهدتها الطائفة في السابق، العامل الأول هو تصاعد الدعوة الى العودة الى الدين والتدين بعد هزيمة العام 1967، فنبتت الجمعيات والأحزاب والحركات الإسلامية على مساحة العالم العربي والإسلامي، وأعيد انعاش شعار quot;الاخوان المسلمينquot; quot;الاسلام هو الحلquot;، كانت هذه الدعوة سنية بالدرجة الأولى، وإن كانت كذلك، فقد مهدت الأرضية الصالحة لتحقيق الثورة في إيران وأعطتها قوة دفع هائلة، وأوجدت لها حلفاء مهمين عند جمهور السنة، أما أصحاب شعار quot;الاسلام هو الحلquot; فلم يخطر لهم التساؤل، أي اسلام يريدون؟ فرحوا بداية بانتصار الثورة الإيرانية ولكنهم ما لبثوا أن دخلوا في غياهب التاريخ والفتن والصراعات، هكذا كانت الثورة الإيرانية وجمهورها المستقطب في لبنان وquot;حزب اللهquot; أبناء شرعيين لشعارات العودة الى الاسلام التي رفعتها الحركات السنية، العامل الثاني الذي لعب الدور الحاسم في إعطاء قوة في إعادة ترتيب الحكم في لبنان على قاعدة الطوائف، ولكن مع تبدل جوهري في هذا الاتجاه وهو الرغبة في أن تقمع الطائفة الجديدة التي هي الطائفة الشيعية باقي الطوائف المتمردة أو التي قد تفكر يوماً بالتمرد، من أجل ذلك كان لا بد من إعطاء قوة إضافية ساحقة لممارسة عملية القمع هذه لباقي الطوائف، إن هذا القول لا ينتقص ولو ذرة واحدة من حسن النوايا والإخلاص لقضية العرب المركزية في فلسطين، حيث أن هذه الجماهير التي تتموضع اليوم مع quot;حزب اللهquot; هي قد تموضعت دائماً الى جانب القضية الفلسطينية، وقدمت الغالي والنفيس من أجل القضية ولكن لعبة السياسة والوهم هو شيء خطير ومكلف.