ياسر الصالح

رغم الميزات الخاصة التي تتمتع بها الثورات الشبابية كثورتي تونس ومصر من حيث سعة شعبيتها وعدم ارتباطها بالتيارات والأحزاب السياسية المتواجدة في ساحاتها، إلا أن هذا النوع من الثورات يستبطن مشكلة رئيسية يحتاج حلها إلى نوع من التنظير لاستنباط آلية يمكن من خلالها تجاوز سلبياتها الجدية، هذه المشكلة تتمثل في عدم وجود قيادة محددة تستطيع أن تقطف ثمار الثورة المتمثلة أساساً بوضع نظام جديد.
ما حدث في مصر وتونس هو أن الشباب المنسَق وليس المنَظَم استطاع أن يهدم تلك النظم بسيل عارم مفاجئ من الأحداث المتلاحقة التي أدت إلى خلخلة كيانات هذه النظم ومن ثم أسقطتها، تماماً كما تفعل آلية laquo;الصدمة والرعبraquo; التي تستخدم في الحروب الحديثة بحيث يتم ضرب العدو بطريقة مفاجأة وبشكل عارم بالغ الشدة يفقد العدو صوابه فيكون أول ما يتأثر هو الجانب النفسي ومن ثم المادي، وهذا ما حدث في هذه الثورات بحيث تفاجأ بها الكل بما فيهم الاستخبارات الاجنبية والاوربية والصهيو- أميركية بالذات، وهي التي كان من ضمن أهم مسؤولياتها حماية النظم الموالية لها في المنطقة وعلى رأسها النظامان المصري والتونسي.
عدم وجود تنظيم وقيادة هو عامل قوة في عملية اسقاط هياكل النظام، فليس هناك رأس تستطيع السلطة اعتقاله او اغتياله مما يؤدي إلى اضعاف التنظيم أو انهائه، وليست هناك تشكيلات تنظيمية يمكن اختراقها وتفكيكها، وليست هناك خطط سرّية يمكن التجسس لمعرفتها وكشفها والعمل على افشالها... فكل شيء عند هذه الحركة الشبابية منشور وموجود على صفحات الانترنت، وجميع محادثاتهم ولقاءاتهم تتم عبر الفضاءات الالكترونية المفتوحة، وهذا بالضبط سر نجاحها الباهر وعجز الأجهزة الاستخبارية عن معرفة حدوثها، ناهيك عن منعها أو اجهاضها، فالنظم الأمنية الوقائية وأجهزة الاستشعار والتشخيص فيها مصممة لتلتقط وتشخص وتتعامل مع الأشكال التقليدية من التنظيمات، فلا تعقل هذه النظم بأن تكنولوجيا ونظم المعلومات المفتوحة يمكنها أن تؤدي مفعول التنظيمات والتشكيلات نفسه في توحيد وجهة الآراء وتنسيق الطاقات ولكن من دون تنظيم وهياكل وتشكيلات، ولذلك عجزت أجهزة الاستخبارات العالمية بكل امكاناتها لتوقع حدوث هذه الثورات، حيث بدأ الكونغرس في لوم الـ laquo;سي آي ايهraquo; لفشله الذريع في هذا المجال.
الحركة الشبابية التي أسقطت هذه النظم بفعالية عالية بدت بعد هذا الإنجاز وكأنها لا تملك تصوراً وخطة لوضع نظام بديل، فليس لديها الإمكانات والمهارات التنظيرية ولا الخبرة الراسخة في العمل من خلال اللعبة السياسية السائدة، كل ما لديها هو عناوين عامة لما ينبغي أن يكون عليه الوضع البديل، ولذلك وبسبب نظافة سريرة هذه الحركات الشبابية فإنها كانت تعترف بعدم قدرتها على القيام بهذه المهمة، وتبادر بعد ذلك لتتركه للقيادات والفعاليات في التيارات والأحزاب المعارضة، وبذلك تترك كل ما تحقق من إنجاز وتضحيات باهضة الثمن تحت رحمة هذه الجهات الشائخة والمترهلة والعاجزة، وربما المخترقة محلياً وإقليمياً وأجنبياً، وتأخذ لها مكاناً في المؤخرة، فيصبح بذلك نتاج الثورة في مهب الريح، فقد يأخذ المنحى الإيجابي وقد يأخذ المنحى المخالف لأهداف الثورة وذلك حسب الظروف وطبيعة الأشخاص المطلعين بالمهمة، وقد تضطر الحركة الشبابية، كما حدث في تونس، إلى النزول للشارع مرات ومرات لتضغط على من كان يفترض بهم أن يكونوا ممثليها كي لا يتصرفوا على نحو يخالف إرادة وأهداف الثوار، وقد اضطروا لدفع المزيد من التضحيات في سبيل ذلك.
عامل القوة الذي يتمثل بعدم وجود تنظيم وهيكلية وقيادة، وكان العامل الأساس في اسقاط النظام يتحول لعامل ضعف في عملية حصاد نتائج الثورة وبناء نظامها البديل، فعملية البناء تحتاج إلى خطط وقيادة وتنظيم وخبرة، وكل هذه الأمور تفتقدها هذه الحركات الشبابية ولذلك يغيب دورها في مرحلة وضع النظام البديل، فهل هناك حل لهذه المشكلة بحيث تضمن هذه الحركة الشبابية بأن أهدافها من الثورة يتم تحقيقها فعلاً، ولا يتم الالتفاف عليها أو إنتاج نظام لا يتماشى مع طموحاتها من خلال تفرد الأحزاب والجهات السياسية العاجزة والمصابة بأنواع الأمراض، وأهمها مرض الشيخوخة في تشكيل هذا النظام، ففي بلدان المنطقة... وكما أن أغلب النظم ترزح في مرحلة الشيخوخة كذلك هي حال المعارضة في هذه البلدان، فموقع القيادة والرئاسة والأمانة هو موقع مدته مدى الحياة عند الجميع.
إننا نرى أنه يمكن التنظير لآلية تستطيع أن تساهم في حل هذه المشكلة، وهذه الآلية تتمثل في ألا تترك الحركة الشبابية إدارة مرحلة البناء وتبقي قيادة هذه المرحلة بيدها كما كانت الحال في مرحلة إسقاط النظام laquo;فملكيتها للساحةraquo; وسيطرتها عليها هو رأس المال الذي يتيح لها فرض إدارتها، أما نقاط الضعف عندها فيمكن التعويض عنها من خلال أسلوب laquo;استدراج العروضraquo; من التيارات والأحزاب السياسية والشخصيات لمعرفة رؤيتها واقتراحاتها لشكل وطبيعة نظام الحكم البديل، وكذلك تستطيع القوى الشبابية القيام بتعيين المستشارين من أصحاب الخبرة ممن يتوافقون مع أهداف الثورة من نظيفي اليد والسيرة لمساعدة الشباب في عملية دراسة الرؤى والاقتراحات وتطويرها.
من خلال نقاط القوة الشبابية الموجودة عند هؤلاء الشباب المتعلم المتمثلة بقدرتها على التشخيص والتحليل، وسعة الأفق، والانفتاح على الإمكانات المتاحة والتجارب المشابهة في الساحات العالمية، بالإضافة إلى النظافة والنزاهة التي تتمتع بها، تستطيع الحركة الشبابية أن تبلور نظاماً بديلاً يحقق أهداف الثورة لتضعه بعد ذلك على السكة ليسير بقوة دفع الآليات والمؤسسات الديموقراطية المكونة لهيكل النظام الجديد... بهذه الطريقة تتجنب الحركة الشبابية ألا تشيخ ثورتها في لحظة ولادتها.
هذه الثورات هي أمل الأمة في الحصول على حريتها من الداخل الفاسد الظالم، وحريتها من الخارج الصهيو ـ أميركي المستغل والمستكبر والقاتل، فلنحاول جميعاً في هذه الأمة مد يد العون لهؤلاء الشباب الواعي الشجاع... الأمل.