نبيل علي صالح

يبدو أن ما قامت به نظم الحكم العربية العتيقة العفنة، من ممارسات وسلوكيات القهر والظلم والفساد والاستبداد والاستبعاد السياسي وغيرها من ارتكابات غير إنسانية بحق شعوبها ومواطنيها لم تعد تجدي نفعاً مع شعوب خرجت كالمارد من القمقم، بل كانت تلك المآسي والمظالم والضغوطات السياسية والاقتصادية التي مورست عليها أكبر دافع ومحرض على سلوك طريق التغيير والثورة ومحاولة بناء دول عصرية مدنية مؤسساتية حديثة.
وبالفعل، فقد ملت ويئست هذه الشعوب -التي كان يقال عنها حتى وقت قريب بأنها شعوب مسترخية مستكينة نائمة راضية بالقهر والعذاب والاضطهاد السياسي- من تكرار واجترار تلك الصور والكليشيهات والأعلام والخطابات الطنانة والشعارات الفارغة ذاتها على مدى عقود وعقود، التي لم تبنِ دولة قانون وعدل ومؤسسات حقيقية أكثر مما بنته من أجهزة إكراهية تمارس العنف المادي والعضوي والقهر والطغيان القائم على حكم فردي أوحد مطلق.
وعندما نستمع إلى بعض وليس (إلى كل) خطابات وأقوال وتحليلات هؤلاء الدمى الديكتاتورية المصابة بمرض جنون العظمة والسلطة والعز والجاه الفارغ، لا نستغرب أبداً ما فعلوه وارتكبوه بحق شعوبهم من أعمال وحشية وشنيعة على مدار أكثر من ستين سنة مضت من مناخات وأجواء القهر والفقر والظلم والاستبداد، منذ زوال عصر الانتدابات الخارجية عن بلداننا العربية في المشرق والمغرب وتحت مرأى ومسمع (وربما موافقة) الإدارات السياسية الغربية الرافعة دوماً لشعار حقوق الإنسان والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
فقد استلمت الحكم بعد ذلك مجموعة من النخب العسكرية المتريّفة -القابضة بقوة على مفاصل المجتمع والدولة- بالاستناد إلى ما كان يسمى laquo;بالمشروعية الثورية الانقلابيةraquo;، فنزل هؤلاء القادة العسكريون سحقاً ونهباً وكراهية بالإنسان والمدنية، وكانت نتيجة أعمالهم السابقة بناء دول تحديثية (غير حديثة!) لا تعترف بالفرد ولا بحقوقه ولا بإنسانية وجوده، بل كانت تريده -وهذا ما تحقق لها طيلة الفترة السابقة- مجرد آلة جامدة لا حس ولا وعي ولا عقل ولا كرامة له، ينفذ ولا يعترض، يطيع بنعم دائمة ولا يقول لا.. وإذا ما حاول إبداء أية ممانعة ولو فكرية ليعبر من خلالها عن بعض ما يجول في نفسه أو خاطره من أفكار واعتقادات لا تناسب النخبة الحاكمة، فإن العزل والسحق والسجن وربما القتل هو مصيره المحتوم الذي ينتظره.. هذا ما حدث في معظم إن لم يكن في كل الدول العربية.
والقذافي -كأحد هؤلاء الحكام المستبدين العرب، وكممثل وعميد حقيقي رائع لهم، ومعبر حي عنهم- لا يجد في مجمل قاموسه السياسي وميراثه الدولتيّ الطويل بعد 42 سنة متواصلة من حكمه الثوري الغاشم بحق ليبيا والليبيين -الذي لم ينمو ويخضر إلا دماءً وعنفاً وتسلطاً وتجبراً- أي كلام يخاطب به شعبه سوى كلام التهديد والوعيد، وتخيير شعبه بينه وبين الفوضى والدمار والحرب الأهلية.. فأية فاشية هذه، وأية عقلية بدائية لاإنسانية هذه.. ومن أية عجينة صنعت هذه الشخصية المعقدة وشديدة التركيب التي تعاني كما يتضح من جنون العظمة ومن نقص هائل في الصفات والأخلاق الإنسانية النبيلة!
وبعد استماعنا لخطاب هذا القذافي الدموي الذي طلب من جيشه ضرب شعبه ومقدرات ومنشآت بلده بالقنابل والطائرات والصواريخ فضلاً عن الرصاص الحي، ما جعل الناس هناك في ليبيا يترحمون على أيام الاستعمار الخارجي، تذكرنا أيضاً خطابات كثير من الزعامات الفرعونية والديكتاتورية العربية وغير العربية ممن أدمنت على الحب والهوس المجنون بالسلطة وعدم القدرة على تركها أو التحرر منها إلا بقوة النزع والضرب على الرأس من الأعلى، كما أنها تذكرنا بخطابات الفاشيين وملوك أيام زمان ممن كانوا يصورون أنفسهم آلهة يجب التعبد في محرابها والتمسح بها ليلاً ونهاراً.
وهذا هو والي المدينة المنورة زمن معاوية حاكم بلاد الشام، يوجه كلاماً قاسياً يستحقر من خلاله إرادة الناس في صلاة الجمعة قائلاً لهم بحضور معاوية وابنه يزيد وباقي أطقم الحكم والدولة: laquo;أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية)، ومن بعده هذا (مشيراً إلى يزيد)، ومن أبى فهذا (مشيراً إلى السيف الذي بيده)؟!
طبعاً هذه هي العقلية الإقصائية التسلطية التي مضى عليها زمن طويل منذ أن حول معاوية الدولة والإسلام ككل إلى ملك عضوض يعض عليه بالنواجذ، ويضحي في سبيله بالغالي والرخيص، حتى بالأولاد. حتى أن هارون الرشيد قال ذات مرة لولده المأمون الذي كانت له منذ أيام والده رغبة جامحة بالسلطة والعرش: laquo;والله لو نازعتني فيه (يعني بالملك) لأخذت الذي فيه عيناكraquo;!
ومن له تلك الأيام المجيدة في تاريخنا العربي (التليد!) الذي قام وشاع على ثقافة تاريخية اتباعية تقليدية تلغي العقل والتفكر والتحرر وتدعو وتمارس عبودية الشخصية وتمثل قيمها وسلوكيتها حتى لو كانت غير إنسانية، وهذه الثقافة ذاتها هي التي أنتجت وأنجبت، وقبل ذلك مهدت الأجواء لولادة شخصيات أمثال معاوية، ويزيد، وصدام حسين، وزين العابدين بن علي والقذافي، وغيرهم كثير من زعامات الحكم السياسي العربي قديماً وحديثاً.
وهذا ما أدى لاحقاً -كنتيجة طبيعية لهشاشة البنية الفكرية والنفسية المولدة للنمو والتطور والإبداع الحياتي والمجتمعي- إلى ضعف مجال الاجتماع السياسي والديني العربي والإسلامي على حساب تقوية وتضخم مواقع الحكم الفردي، وتعقيم الحياة السياسية الحقيقية في بلداننا العربية.. وهذا ما أدى أيضاً إلى تهشيم البنية المجتمعية المدنية في عالمنا العربي التي يمكن أن يلجأ إليها أفراد المجتمع للتعبير عن معتقداتهم وقناعاتهم وآرائهم وأفكارهم، لأن هناك حالة ضعف أو إضعاف للأحزاب السياسية، مع أن وجودها الحقيقي كان يجب أن يؤدي ويساهم في تفعيل وتزخيم وتطوير الحياة السياسية لأي مجتمع من المجتمعات خاصة مع دورها في مراقبة الحزب أو السلطة القائمة وطرح بدائل عنها وما يمكن أن يثيره ذلك الجو والمناخ السياسي السليم والسلمي من تعميق لحالة التنافس والسجال والحراك السياسي المتقدم والحقيقي.
طبعاً، هذا كله ليس موجوداً في دنيا العرب والمسلمين إلا فيما ندر، يعني أن هناك حالة غياب وتغييب قسري للحريات المتعددة من الحرية الشخصية إلى الحرية السياسية في ظل هيمنة قوانين الاستثناء والطوارئ، وهناك الهيمنة المطلقة لأجهزة الدولة على المؤسسات والمواقع الإعلامية التي تزيف الحقائق وتمنع الناس والنخب من قولها.. وهناك حالة انتشار وتفشٍّ واسع لثقافة الفساد والإفساد، وهناك أيضاً تفشٍّ لثقافة الخوف والتخويف.. إضافة إلى انعدام فرص العمل وتفشي العطالة والبطالة والفقر والتخلف المجتمعي العام (120 مليون أمي عربي لا يقرؤون ولا يكتبون ولا يعرفون فك الحرف).
تصوروا أننا على أعتاب العقد الثاني من الألفية الجديدة، ولا يوجد في جعبة نظمنا الحاكمة شيء إبداعي فوق العادة يمكن أن تفاخر به وتقدمه لشعوبها رغم توفر قدرات ووجود إمكانات وطاقات هائلة وموارد طبيعية كبيرة في تلك الدول لم تستطع تلك النظم أن تبني وتطور وتراكم سوى في مداخيلها وثرواتها الخاصة على حساب الشعب كله.. حيث رأينا كيف أنه في الوقت الذي كان فيه الشعب الليبي يجوع ويعرى، كانت الأموال والموارد والثروة النفطية تضيع في جيوب القذافي وجيوب زبانيته وأولاده وبطانته الفاسدة.
من هنا لاحظنا أن الناس ضاقت بها الحياة والسبل من رؤية هذه الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينها وبين تلك النظم ومن يدور في فلكها، كما أنها لم تعد تطيق أن تشاهد وتسكت عن تلك الفوارق المادية والمستويات المعيشية والحياتية بينها وبين باقي الدول في الغرب أو في تركيا أو غيرهما من الدول المتطورة والخادمة لشعوبها؛ لهذا فقد انطلقت تلك الجماهير الغفيرة وبصورة شبه عفوية -وليست مدفوعة لا بأجندة خارجية ولا بغيرها سوى بأجندتها الداخلية الخاصة- لتعبر عن ظلامتها وعما يجول في خواطر وقناعات الناس من ضرورة التغيير الجذري والثورة ضد هؤلاء الطغاة، الذين وصلت بهم الحدود أن يتفننوا في ممارسة السلوكيات اللاأخلاقية بحق شعوبهم من شراء القصور الباذخة في أوروبا وأميركا وأفضل منتجعات العالم، وترك مجتمعاتهم نهباً للفقر والجهل والتخلف.
ويبدو أن قطار التغيير يسير بسرعات كبيرة، وهناك محطات عديدة ستتحرك ليصل إليها بعد فترات زمنية غير طويلة.. وما يحدث في هذه الأيام من انتفاضات وثورات إنسانية غير أيديولوجية ليس إلا تعبيراً عن طموح الناس في بلادنا العربية للعيش الكريم أسوة بباقي خلق الله الذين يعيشون بهدوء وطمأنينة وحياة مستقرة هانئة ورغيدة بكل وعي وحرية في باقي بلدان العالم. إنها بالفعل صرخة هذا الإنسان المصري الذي عبر واختصر كل ثورة مصر بثلاث كلمات: laquo;إحنا عايزين نعيشraquo;.. أو ذاك التونسي الذي عبر عن أن طموح ثورة تونس عنده تجلى من خلال أنه بات باستطاعته أن laquo;يصرخ بحريةraquo;!
إنها -أخيراً- صرخة الحرية المدوية التي تزلزل عروش الطغاة في كل مكان.. وقبلها تزلزل وتهز قلوبهم الصدئة المليئة بالحقد الأسود والأعمى على شعوبهم التي استحملتهم كل تلك السنوات والعقود العجاف!!