طراد بن سعيد العمري


التفاعل الذي أبداه مجلس التعاون الخليجي مع الأحداث في البحرين يؤكد الطابع الخاص والمميَّز لدول الخليج العربية الست التي تفتخر بأنظمتها السياسية وتثق بمنظوماتها الاجتماعية والشعبية. ذلك الفخر وتلك الثقة يستلزمان قراراً سياسياً فاعلاً وقوة عسكرية تدعمها وتحميها من الأطماع والتدخلات، وهذا هو الأساس الذي أنشئت من أجله قوات quot;درع الجزيرة العربيةquot; في شكل قوة تدخل سريع تنتقل بفاعلية لمساعدة أي دولة من دول المجلس على صد أي خطر محتمَل، وإرسال رسالة واضحة ومباشرة لطرد أي تفكير لاستغلال ما يحدث.

الذين أنكروا على مجلس التعاون إرسال قوات درع الجزيرة إلى البحرين يتعمّدون المغالطة، بقصد أو من دون قصد. صحيح أن ما يحدث في البحرين من تجمّعات واعتصامات شعبية، أمر داخلي يمكن قوات الشرطة والحرس الوطني وقوة دفاع البحرين، إنْ تَطَلَّبَ الأمر، التعامل معه بكل يسر وسهولة، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير من المنظور السياسي والجيوسياسي والإستراتيجي، فبخلاف ما حدث في جميع أرجاء الوطن العربي، يجد المراقبون أن مظاهر الاحتجاج في الخليج العربي مختلفة نوعاً ما، بحيث تظل مطالب فئوية شبه مقبولة، إلا أن ما حدث في البحرين على وجه الخصوص يظل مغايراً تماماً لكل التظاهرات الشعبية في الوطن العربي، التي ميَّزَها البعدُ عن الطائفية وعبث الأصابع الخارجية، ما عدا البحرين، التي غلب على أحداثها الطابع الطائفي، الذي ظهر بشكل مفاجئ، في محاولة مرصودة لما ينبئ عنه الفكر الإستراتيجي الإيراني.

إيران صاحبة المطامع الكبرى في الخليج العربي، وفي البحرين خصوصاً، منذ نهاية الستينات من القرن الميلادي المنصرم، تجد في التظاهرات الشعبية في البحرين فرصتها الذهبية المواتية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والتذرع بحماية الطائفة الشيعية ومحاولة دس الفرقة بين أبناء الشعب الواحد لتصدير أزمتها الداخلية ومحاولة رأب الصدع الذي ظهر إلى السطح عقب الانتخابات الأخيرة في بنية النظام الإيراني من الهرم إلى القاعدة الشعبية. التدخل الإيراني لتغيير النظام السياسي في البحرين يهدف إلى: أولاً، توحيد الجبهة الداخلية الإيرانية بافتعال حرب خارجية، ثانياً، اختراق منظومة دول الخليج العربية بتغيير النظام السياسي في البحرين، ثالثاً، تهديد المناطق الاستراتيجية والحيوية في شرق السعودية وقطر، وأخيراً، إيجاد ورقة ضغط على الولايات المتحدة الأميركية والغرب.

الزلزال السياسي الذي ضرب الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، والذي طوّق المملكة العربية السعودية تحديداً، أثَّرَ بشكل كبير على توازن القوى والخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وخلق فرصة إستراتيجية مواتية تحاول إيران اقتناصها لكي تزيد من نفوذها في الخليج والشرق الأوسط بشكل عام.

فمن ناحية، يعتمد توازن القوى في الخليج العربي على ثلاث قوى إقليمية (السعودية والعراق وإيران). هذا النظام الثلاثي أبقى الخليج متوازناً في القوة منذ انتهاء الانتداب البريطاني في نهاية الستينات وبداية السبعينات، حتى إن الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمانية أعوام (1980 ـ 1988) لم تتمكن من تغليب قوة على أخرى. إلا أن خروج العراق من الثلاثية القطبية بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في عام 2003، حوّل الخليج العربي إلى ثنائية قطبية، ما زاد من العبء الإستراتيجي على السعودية، لكن إيران اتجهت مرحلياً إلى مد نفوذها خلال السنوات الماضية تجاه العراق وسورية ولبنان، مستخدمة الطائفة الشيعية ومستغلة الأوضاع الداخلية المضطربة ومتذرعة بالتواجد أو النفوذ الأميركي في كل من العراق ولبنان.

من ناحية ثانية، يعتمد توازن القوة في الشرق الأوسط على نظام ثلاثي الأقطاب أيضاً، من ثلاث دول غير عربية هي: إيران وتركيا وإسرائيل، وثلاث دول عربية تتبدل بحسب الوضع السياسي في المنطقة، فكانت الثلاثية القطبية العربية حتى بداية الثمانينات: العراق وسورية ومصر، وبعد خروج مصر نتيجة اتفاقية كامب ديفيد، أصبحت السعودية والعراق وسورية الأقطابَ الثلاثة في ميزان القوة، وبعد خروج العراق وعودة مصر، أصبحت الثلاثية هي: السعودية وسورية ومصر، أو ما كان يعرف بدول الطوق، ومع جمود العلاقات مع سورية قبل أعوام، دخل الأردن لفترة محدودة في ما سمي دول الاعتدال العربي. ولذا نلحظ أن إيران والسعودية تتشاركان في معادلتي القوة خليجياً وشرق أوسطياً. أما الآن، ومع سقوط النظام المصري، تجتهد إيران في اقتناص فرصتها السانحة لمزيد من الهيمنة والسيطرة على الخليج والشرق الأوسط.

الفرصة الإيرانية تكمن في البحرين، التي تشكل الحلم الإيراني منذ عهد الشاه، الذي أنذره الملك فيصل بعدم التفكير في مد نفوذه إليها مطلع السبعينات. ومع أن الأغلبية الشيعية في البحرين عاشت في تناغم اجتماعي تام ولم تكن تشتكي من تهميش، خصوصاً بعد الإصلاحات السياسية التي بدأها الملك حمد بن عيسى، وعلى رغم مبادرة ولي العهد البحريني، التي جاءت شاملة كاملة لكل المطالب التي يطالب بها المحتجون، إلا أن المخطط الإيراني يجعل من أي فرصة للحل ضرباً من المستحيل لكي يتم تنفيذ الاستراتيجية الإيرانية العظمى (Grand Strategy). ومن هنا يأتي إرسال القوة الرمزية من قوات درع الجزيرة مقدمة لخطة وقائية ورسالة سياسية هامة.

تعتمد إيران على عدد من المعطيات غير الملموسة وتعوّل على بعض المتغيرات السياسية والديموغرافية والمذهبية لتنفيذ استراتيجيتها العظمى والتدخل في البحرين، مثل: الوضع الحرج للدول العظمى، وخصوصاً الولايات المتحدة - ضعف المجال العسكري للخليج العربي - حساسية الخليج كمصدر أساسي للطاقة - الجهد الإستراتيجي للسعودية (Strategy Stretch) - الأوضاع المضطربة في الطوق المحيط بالسعودية - التركز الشيعي في البحرين والمنطقة الشرقية السعودية المحاذية للبحرين، الغنية بالنفط.

في المقابل، هناك عدد من الثقوب في الاستراتيجية الإيرانية: - تفتقد إيران إلى وحدة الجبهة الداخلية. - معاناتها من العزلة السياسية بسبب الرفض الدولي لبرامجها النووية والحظر المفروض عليها. - الافتقار إلى القدرة العسكرية الهجومية أو الدفاع في أراضي الغير. - العجز في مواجهة الأسطول الأميركي المرابط في البحرين أو القاعدة الجوية في قطر. - جاهزية القوة العسكرية التركية وقوات حلف شمال الأطلسي المتمركزة في تركيا وأفغانستان. - إرباك التوازن الإقليمي في غرب آسيا بالنسبة إلى باكستان. - القوة العسكرية المتقدمة لدول الخليج مجتمعة، والسعودية بشكل خاص. -الأغلبية السنية في جميع الدول التي تحاول إيران إدخالها في دائرة نفوذها.

ولذا، فإن التغيير الذي تنشده الشعوب يطال الشعب الإيراني أيضاً في التوق إلى الرقي والحرية من صنوف الكبت والعزلة التي عاشها على مدى العقود الثلاثة الماضية، بصرف النظر عما يحاول النظام الإيراني ترقيعه أو تغييبه، وحماقة النظام في افتعال حرب اقليمية عن طريق تغيير النظام السياسي في دولة خليجية مثل البحرين، يضاف إلى ذلك أن هز الاستقرار في منطقة حيوية للاقتصاد العالمي سيقضي على الثورة الإيرانية قضاء مبرماً.

من ناحية ثانية، لن تقف السعودية في وضع المتفرج والسماح بأي جهالة إيرانية للعبث بأي نظام سياسي من أنظمة مجلس التعاون مهما كان الثمن أو بلغت التضحيات، فتجربة نظام صدام حسين قبل عقدين من الزمان ما زالت ماثلة للعيان. وبالتالي، إذا اعتقدت إيران أن تطبيق السيناريو الذي اتبعته في العراق سينجح في البحرين، فإنها بذلك تدق وتداً في نعش الثورة الإيرانية بمجملها.

أخيراً، ما قام به مجلس التعاون لدول الخليج العربية من إرسال قوة من درع الجزيرة ضرورة استراتيجية قصوى تكتب السطر الأول من الرسالة الخليجية التي يجب أن يعيها النظام الإيراني، خصوصاً أنه يعلم جيداً أن العبث بأمن الخليج خط أحمر يتجاوز بمراحل أساليب المناورة التي انتهجها في التعامل مع الدول الكبرى حول البرنامج النووي. كما أن الحكمة التي تتعامل بها دول الخليج في إدارة الأزمات السياسية هي مزيج من العقل والجهل في ما يخص الخطوط الحمراء، وأقرب إلى بيت شعر شعبي يقول: قوم بلا عقال توخذ حقوقها، وقوم بلا جهال تغدي مذلة. أو قول شاعر عربي: ألا لايجهلنّ أحد علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا.