وائل مرزا

منذ أربع سنوات كتبت مقالا بعنوان laquo;أين مصر؟raquo; ونشرته الصحيفة المعنية بعنوان laquo;دور مصرraquo;... بدأت حديثي مستشهدا بمقطع من مقال للدكتور حسن نافعة يتحدث فيه عن قلق يراوده في تلك الأيام قائلا: laquo;قضيت أكثر من أسبوع متنقلا بين القاهرة وعمان وبيروت، ورغم قصر المسافة الزمنية التي تفصل بين هذه العواصم الثلاث... فإن المسافة النفسية بينها راحت تتسع على نحو يثير القلق ويكاد يكون غير قابل للتصديق، ولا أظن أنني أبالغ إذا قلت إن المواطن العربي بدأ وهو يتنقل بين العواصم العربية المختلفة، وبالذات بين القاهرة وأي عاصمة عربية أخرى يحس على نحو متزايد بوجود تلك الهوة النفسية الكبيرة كأنه يتنقل بين عوالم، وربما كواكب مختلفة لا تمت لبعضها البعض بصلة... بل إن مصر الرسمية بدت في نظر البعض وكأنها تحاول أن تبني بينها وبين الدول العربية جدارا عازلا يرونه أكثر خطورة وضررا على الطرفين من جدار الفصل العنصري الذي تبنيه إسرائيل فعلا بينها وبين الفلسطينيين!raquo;.
ذكرت يومها أن الخطير في الكلام صدوره عن رجل لا يمكن التشكيك في وطنيته أو المزايدة عليه، فضلا عن كونه أستاذ علوم سياسية مخضرم والأمين العام لمنتدى الفكر العربي. تحدثت في المقال أيضا عن جملة من الهواجس والمخاوف التي يعبر عنها صفوة من المثقفين والكتاب المصريين قبل غيرهم بشأن دور مصر المنتظر، وختمته بما ختم به الدكتور نافعة مقاله قائلا: laquo;غير أن أكثر ما يحز في النفس، في هذا الصدد، أن تبدو مصر مشغولة إلى حد الاستغراق الكامل في تفاهات من هذا النوع في وقت يبدو فيه غيرنا مشغولا باستنفار الأمة وبدعوة مناضليها للجهاد المقدس لإنقاذ المسجد الأقصى، أو بدعوة مفكريها للمساهمة في صياغة وإقرار laquo;مشروع حضاري نهضوي عربيraquo;، وأيا كان الأمر فمن الواضح أن المسافة النفسية التي تفصل مصر الرسمية الآن عن بقية العالم العربي باتت تعادل ذات المسافة التي تفصل بين laquo;المشروع الحضاري النهضوي العربيraquo; وبرنامج laquo;هالة شوraquo;raquo;.
نشرت بعدها بعام مقالا بعنوان laquo;مصر التي نحبraquo; أشرت فيه إلى مظاهر لا يتم التركيز عليها من مصر الحقيقية، ثم عندما ظهرت منذ سنتين حملة غريبة لمقاطعة مصر نشرت مقالا آخر بعنوان laquo;حملة مقاطعة مصر: عيب وقلة وعي ودعوة للانقسامraquo;. فعلت هذا، وفعله كثير من المثقفين والكتاب فقط لأنهم يعرفون قيمة مصر ودور مصر وتأثير مصر، وما قدمته وما يمكن أن تقدمه لهذه الأمة.
وقد وجدت في أرشيفي مادة تتعلق بهذا الموضوع منها قول وحيد عبدالمجيد في laquo;الحياةraquo; بتاريخ 3 ديسمبر 2006م: laquo;فمصر، التي صغرت، لا تحفل نخبها السياسية والثقافية في معظمها إلا بكل ما صغر من قضايا، أو بما هو متهافت في القضايا الكبيرة التي يجري تسطيحها من دون هوادة في الجدل العامraquo;. أما فهمي هويدي فكتب قبل ذلك في laquo;الأهرامraquo; بتاريخ 30 أكتوبر من العام نفسه عن laquo;اللامعقول في بر مصرraquo; مفتتحا مقاله بالعبارة التالية: laquo;بعض الذي يحدث في مصر هذه الأيام من الفداحة بحيث يصعب تصديقهrlm;، حتى يستحي المرء أن يتحدث عنهrlm;، لأنه كاشف على نحو معيبrlm;، يكاد يعيد إلى الأذهان عصر ما قبل الدولة المركزية في الزمن السومريrlm;raquo;. فضلا عن كتابات مشابهة لمأمون فندي في laquo;الشرق الأوسطraquo; وسعد الدين إبراهيم في laquo;الرايةraquo; وعزت القمحاوي في laquo;القدس العربيraquo; وأسامة أنور عكاشة في laquo;المصري اليومraquo; وجمال سلطان في laquo;المصريونraquo;، وغيرهم في مجموعة من الصحف والمجلات والدوريات. ورغم الاختلاف الظاهر في توجهات هؤلاء الكتاب والمثقفين المصريين وفي خلفياتهم الثقافية فإن ما كان يجمع كتاباتهم هو الانشغال بالبحث عن أسباب غياب وزن مصر وتلاشي تأثيرها الإيجابي المطلوب في المنطقة.
أما الآن، وبعد أن قامت مصر من سباتها التاريخي كما تقوم العنقاء، وبعد أن قدمت للعالم نموذجا بثورتها المجيدة قد لا يكون له مثيل في تاريخ البشرية، وبعد أن أثبت شعبها العظيم أنه نفض عن روحه غبار عقود من التهميش والسلبية واللامبالاة، فإن مسؤولية مصر كبيرة وكبيرة جدا. وما ننتظره منها كعرب كبير وكبير جدا.
لقد كان غياب مصر سببا رئيسا من أسباب الانحطاط العربي العام. لا نتحدث فقط عن الغياب السياسي الذي أفرز واقع الهزيمة والتجزئة والانقسام والتبعية، وإنما عن الغياب الحضاري في الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية والأدبية، والذي أسهم إلى درجة كبيرة في تسطيح وتسخيف وهزال وتخلف الحراك العربي العام في فعاليات الحياة المذكورة.
من هنا، فإن عودة مصر إلى الحضور في كل تلك المجالات أساسي جدا، ومطلوب جدا. لأن ظهور واستقرار مصر الديمقراطية القوية، مصر النظام والتنمية، مصر العدالة والحرية والمساواة، مصر التعايش والتعددية، مصر الاستقلالية والعزة، مصر التخطيط والعلم، مصر التي تنتج الفن الراقي والأدب الراقي، مصر التي تنفتح على العالم وتتعامل معه سياسيا وثقافيا وحضاريا بتوازن يليق بتاريخها وهويتها، مصر الشريفة التي تحارب الفساد، مصر التي تحترم إنسانها أيا كان وضعه الاقتصادي والاجتماعي، مصر التي تهتم بشأن أخواتها في العالمين العربي والإسلامي، ظهور هذه الـ laquo;مصرraquo; التي كنا نحلم بها كعرب لعقود، وننتظرها كما ينتظر العطشان جرعة ماء، سيؤثر إيجابيا في العالم العربي بأسره، بغض النظر عن كل ما جرى ويجري وسيجري في أي بلد عربي آخر الآن.
من هنا، نرى كعرب أن كل مصري مسؤول منذ اليوم، ليس فقط عن أن يحفظ طهارة ونقاء الثورة المصرية العظيمة، بل على التعاون لإخراج نموذج مصري حضاري متميز يكون منارة للعرب في المرحلة القادمة الصعبة، وهو نموذج لن يصعب على مصر بناؤه على الإطلاق بكل ما لديها من تاريخ وخبرة وطاقات.
لهذا نقولها بصراحة: المجلس العسكري الانتقالي مسؤول، ورجال السياسة مسؤولون، وشباب الثورة مسؤولون، والحكماء مسؤولون، والمثقفون مسؤولون، والإعلاميون مسؤولون، ومعهم الأكاديميون والطلبة والفنانون وكل شرائح المجتمع المصري. بل إننا نشعر أن كل فرد مصري في هذا الشعب العظيم بات مسؤولا.
هذه مسؤولية تشريف وتكليف في الوقت نفسه. وهي تنبع من حجم المعجزة التي كانوا قادرين على تحقيقها، بحيث بات تحقيق ما بعدها ممكنا إذا ما أرادوا ذلك.
أما بقية العرب، فإن مسؤولية كبرى تقع على كل قادر منهم على مساعدة مصر والمصريين على بناء النموذج الحضاري المطلوب. إسهاما فكريا وأكاديميا واستثماريا وإعلاميا، وبكل طريقة ممكنة، لأن مثل هذا الإسهام سيصب في النهاية في مصلحة جميع العرب.
وللشعب المصري الكريم نقول: لقد تصديتم لمهمة يقوم بها القلائل في هذا العالم. لقد تصديتم لصناعة التاريخ، ولا يمكن لمن يسير على هذا الطريق وينجز فيه ما أنجز أن يتوقف أو يعود إلى الوراء.