إياد أبو شقرا

quot;لن ترتاح البشرية إلا عندما يتولى محبّو الحرية السلطة، أو عندما يصبح أصحاب السلطة محبّين للحريةquot;
(أفلاطون)


يبدو أن الأوضاع في سورية وصلت أخيراً إلى حد اضطرت معه إسرائيل إلى كشف موقفها الحقيقي من الحكم في دمشق.

لعقود أربعة كان من مصلحة الجانبين، تل أبيب ودمشق، الإيحاء بأنهما طرفا نزاع إقليمي مصيري ومستحكم. وكان هذا الإيحاء حاجة حيوية لكليهما. ففي صميم مصلحة السياسة العدوانيّة والتوسعيّة الإسرائيلية ابتزاز الغرب على الدّوام بأنها quot;قاعدته العسكريةquot; المتقدّمة في قلب عالمٍ عربي وإسلامي مهدّدٍ تارة بالراديكالية اليسارو - قومية، وطوراً بالأصولية الإسلامية. وبالتالي، طالما بقيت هناك قوى ترفع شعارات quot;الصمود والتصدّيquot; أو quot;الممانعةquot; والمقاومة، ولو قولاً لا فعلاً، بقيت صنابير الدعم الغربي - وبالذات الأميركي - مفتوحة ... مالاً وسلاحاً وتغطية سياسية وتسهيلات استثمارية وتجارية.

وفي المقابل، استفاد الحكم السوري كثيراً من نهج العدوانية الإسرائيلية القائم على القمع والتوسّع والانتهاك المُمنهَج لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإصرار إسرائيل على الاحتفاظ بمرتفعات الجولان ومزارع شبعا المحتلة، وكذلك تعمّدها إجهاض أي مشروع سلام عادل، وتعزيزها الدؤوب صدقية الحركات الأصولية المتشددة في المنطقة من كل الأطياف والمذاهب. فقد وفّر هذا النهج للحكم السوري مبرّرات أكثر من كافية لتجاهل الخيار الديمقراطي، ومواصلة فرض قانون الطوارئ، والتلاعب في موضوع حماية الأقلّيات المذهبية والعرقية ... تحت ذريعة مكافحة الأصولية، مع أن المنطق يقول أن مناخاً قمعياً كهذا هو المناخ الأكثر ملائمة لنشوء أصولية ساخطة وحاقدة وميالة دوماً إلى خيار العنف.

خلال الأسبوعين الأخيرين، كان أمام الحُكم في دمشق خياران واضحان: فإما أن يستوعب جوهر ما حدث في تونس ومصر، فيبدأ مراجعة عاجلة quot;من داخل البيتquot; لتلبية حاجات الشارع، أو يتبنّى الخيارين الانتحاريين الليبي واليمني في المكابرة والإنكار ... ولو وصل الأمر إلى الحرب الأهلية.

لا أحد يتمتّع بأدنى حد من الدراية بالتركيبة السياسية لسورية كان يتوقّع تسوية quot;طبق الأصلquot; لتسويتي تونس ومصر، غير ان الخطاب الإعلامي، ثم السياسي من الرئيس بشار الأسد نفسه، جاء ليقنع حتى ذوي النيات الحسنة، بأن عملية الإصلاح الحقيقي من داخل النظام باتت شبه مستحيلة.

لماذا؟ لأن كل فلسفة النظام تقوم حقاً على quot;الخيار الصفرquot; ... فإما أنا أو الفوضى. فكره وممارسته يستندان جوهرياً إلى أولويات quot;الأمنquot;. إلى قطع الطريق على أي مساس به، مهما كان محدوداً، لأنه يختصر بوجوده - كما صوّر لكل المعنيين في الداخل والخارج - وجود جماعات معينة ... إذا ضعُف ضعُفت، وإذا ضُرب ضُربت. ثم أن حماية ما يمثله ضد quot;البعبعquot; الأصولي الافتراضي تستوجب اللجوء إلى استراتيجيتي quot;فرّق تسدquot; ... وتصدير الأزمات إلى الخارج.

لندع جانباً، كل الكلام quot;العلنيquot; عن الغاية quot;النضاليةquot; من التحالف مع إيران منذ quot;الثورة الخمينيةquot; والعداء الشديد - اللفظي أيضاً - للولايات المتحدة وإسرائيل والإمبريالية ... ونناقش في المواقف من الصراع العربي الإسرائيلي.
هنا لا حاجة لنكء الجراح ولا المزايدة في العروبة والتحرّر، ولكن لنبحث في السنوات الـ41 الأخيرة التي بدأت مع ما يُسمى مع quot;أيلول الأسودquot; في الأردن في خريف 1970، وماذا كان موقف ما بات quot;الحركة التصحيحيّةquot; السورية من ذلك المفصل التاريخي في تاريخ حركة المقاومة الفلسطينية.

ولننطلق من هذه المحطة إلى الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975-1976، ودور دمشق في تلك الحرب، وطريقة تعاملها مع quot;اللاعبينquot; اللبنانيين والفلسطينيين ... على الأرض. وأي لبنان quot;طائفيquot; خرج بعد ثلاثة عقود من الهيمنة السورية والتحالفات التكتيكية quot;العلمانيةquot; الأمنية التي اعتمدتها.

ونصل أخيراً إلى محطة الانقسام الفلسطيني، وتشجيعه واستثماره إلى درجة تقسيم الأراضي الفلسطينية بين quot;ضفةquot; تحكمها quot;فتحquot; وquot;قطاعquot; تحكمه quot;حماسquot;، وهو ما من شأنه أن يفضي إلى نسف أي فرصة للإبقاء على كيان فلسطيني قابل للحياة، وأي سلطة فلسطينية قادرة على التحرك.

أما إذا كان للمراقب أن يتكلّم عن العلاقة مع واشنطن، فإن الشرح يطول. فحتى في عزّ quot;الغضبquot; الأميركي على دمشق قام الموقف الأميركي إزاء الحكم السوري على أساس quot;تغيير السلوكquot; وليس تغيير النظام. حتى في وثيقة ريتشارد بيرل وزبانيته من quot;المحافظين الجددquot; الشهيرة A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm لم يطرح موضوع quot;تغيير النظامquot; في سورية بل quot;احتواء سوريةquot;، تماماً بخلاف الموقف من العراق.

وبالأمس، بعد quot;جمعة الشهداءquot; حين أريقت دماء مزيد من المواطنين، ورد تعليقان بليغان من اثنين من أبرز خبراء الشؤون العربية في إسرائيل، هما موشيه ماعوز (الجامعة العبرية) وغابرييل بن دور (جامعة حيفا)، نقلتهما وكالة quot;رويترquot;.
ماعوز قال quot;الفكرة القائلة أن هذه الأنظمة (العربية) ستحل محلها ديمقراطيات ليبرالية فكرة غير واقعية، ... وإذا استمر (نظام الأسد) فقد يكون اكثر براغماتيةquot;.
أما بن دور فقال quot;سيفضل الجانبان (الإسرائيلي والفلسطيني) أن يستمر الأسد في الحكم، وتنطبق في هذه الحالة مقولة مَن تعرفه خير ممّن لا تعرفهquot;. وأردف quot;لا يعتقد أي من الجانبين أن هذه الاضطرابات ستتمخّض عن بديل أفضل، بل هما يشعران بالخوف من أنه إذا رحل الأسد من هناك فسيؤدي هذا الى فترة طويلة من الاضطراباتquot;. ثم أضاف quot;لن يستطيع أي نظام جديد تعريض شرعيته للخطر بالتوصل الى أي اتفاق مع اسرائيل. ولكن اذا استمر الاسد في الحكم فقد يبدي مرونة أكبر تجاه الغرب في محاولة لتعزيز اقتصاد سوريا وإخماد الغضب الشعبي بشأن الفقر والبطالةquot;.

كلام واضح .. لا يحتاج إلى تعليق.