عبد الوهاب بدرخان



قبل رحيله لأنه سيرحل في أي حال، قريباً أو بعد حين، أصبح quot;ملك ملوك أفريقياquot; متوجاً بالوحشية بشهادة ما يرتكبه في مصراتة، قبلة المدن الليبية لم تكن تعرف قبل نحو شهرين فقط أنها ستختصر ثورة شعب على الطاغية وأن أبنيتها المدمرة ستذكّر العالم بصور ستالينجراد أو بيروت أو غزة، صممت كثيراً وتألمت كثيراً وتشكلت كثيراً، قاتلت وتقاتل بما وصل إلى الأيدي بالقليل من السلاح والذخائر وبالقليل الجيد من الفطنة وحسن التدبير.

تظهر الصور أن قوات القذافي اعتمدت القصف المنهجي والتخريب الانتقامي من عمران مدينة كانت نشطة وراقية ومنتجة، يتعمد الجند استهداف المدنيين غير المسلحين، يبحثون عن الأطفال والنساء والعجائز ولا يتورعون عن الاغتصاب الجماعي على طريقة الصرب في البوسنة، لا يردعهم وازع لا من قادتهم وكلهم أبناء قبائل، ولا من دواخل وجدانهم، ولا من مستقبل يعرفون أنهم وأولادهم لابد أن يعيشوه مع سائر أبناء ليبيا، لكنهم باتوا الآن مطاردين ويعرفهم الليبيون فرداً فرداً، أي قاتلاً قاتلاً، ولابد أن يجلبوا إلى القضاء حتى المرتزقة الذين يرافقونهم أنفوا من أفعالهم، فالضباط والجنود الليبيون وحدهم يرتكبون الفواحش والفظاعات، لأن الأوامر تطلق أيديهم ليقتلوا ويعيثوا بلا رحمة.

لا يمكن لحاكم، مهما بلغ اختلاله، أن يرتكب هذه الانحرافات إلا لأنه حسم أمره واستغنى عن جزء من شعبه، ويريد أن يقسم البلد، لم يعد يريد الشرق كله، وسيكتفي بالغرب زائداً النفط، وطالما أنه سيطر على خليج الموانئ النفطية من سرت إلى مشارف أجدابيا مروراً ببريقة، فإن مصراتة غدت مجرد جيب معزول للثوار، وباعتبارها بوابة الغرب قرر أن يسحقها ويخضعها ولا مانع لديه من تهجير أهلها، الأمر واضح عنده: إذا لم يعد المصراتيون يريدونه حاكماً أبدياً وquot;محبوباًquot; فهو أيضاً لا يريدهم في quot;ليبياهquot; التي يتوهم أنه سيحتفظ بها، لكنه يعلم أن من هم أبعد من مصراتة، في زليطن ويفرن والزاوية، ومن هم في محيط مخبئه ينتظرون الخلاص منه وبأي وسيلة.

يبحث القذافي عن نصر في مصراتة، وقد يحصل عليه إذا لم تطرأ مفاجأة عسكرية أو حركة احتجاج جدية في طرابلس، لذلك يقول نجله سيف الإسلام إن quot;وضعناquot; يتحسن، إذ أن إسقاط مصراتة سيعني للنظام أنه كسر الهدف الرئيسي المعلن للحملة الدولية، وهو quot;حماية المدنيينquot;، بل سيقنعه بأنه دحر الحلف الأطلسي وأن نصره يجعله مستحقاً مواصلة أوهامه، وبالتالي اعتقاده بأن الأوراق لم تُلعب كلها بعد وأنه لايزال اللاعب الذي يعتمد عليه في ليبيا، رغم العقوبات، ورغم ملفه لدى المحكمة الجنائية الدولية، ورغم قنابله العنقودية التي تقتل أكثر ما تقتل أطفالاً ليبيين في أزقة مصراتة.

عندما اتخذ القرار في مجلس الأمن كان المجتمع الدولي يعلن أن الوضع الليبي أصبح شأنه وتحت رعايته، لكنه ما أن أصبح مرتبطاً بقيادة الحلف الأطلسي اختلف الأمر كلياً، بل تدهور يوماً بعد يوم، بدا quot;الناتوquot; كأنه تسلم المهمة على مضض، أي لم يكن راغباً فيها ولا مقتنعاً بها، لذا فهو ينفذها من دون حزم ولا حسم، كما لو أنه لا يعتبر نفسه مسؤولاً عن استمرار سقوط مدنيين، فأين اختفت أصداء المؤتمرات التي عقدها ليعلن أن تطويراً مهماً ادخل على quot;عقيدتهquot; فأصبحت معنية بمختلف النزاعات في العالم، وكيف يوفق بين هذه الادعاءات وبين تباكيه اليومي بأنه لا يملك الأسلحة والمعدات الملائمة للتعامل مع النزاع الليبي، ماذا لو كان هذا النزاع في منطقة أكثر أهمية وحيوية بالنسبة إلى quot;الناتوquot;.

ثمة بلبلة داخل صفوف الأطلسي بعثت برسالة إلى القذافي تتناقض مع بيانات quot;مجموعة الاتصالquot; التي أقرت تنحية هذا الطاغية كهدف للدول المشاركة فيها، ربما أصبح ملحاً إجراء مراجعة للقرار 1973 لتصويب الأهداف، أو على الأقل إلزام دول الأطلسي عدم اللعب بورقة تقسيم ليبيا.