عمار علي حسن



تعود المصريون أن يدخلوا في جدل كبير كلما صدر تقرير الخارجية الأميركية عن حالة الحريات الدينية في مصر، فبعضهم يبتهج به ظناً منهم أن فيه خلاصهم، أو الانتصار لهم، وأنه سيعبد الطريق أمامهم لنيل حقوقهم المهضومة وحصصهم المؤجلة. وعلى الضفة الأخرى يمتعض منه البعض لأن فيه مسّاً مباشراً بالخصوصيات الثقافية والسمت الديني والأمن الوطني. وفي الحقيقة فإن أتباع الفريقين يعيشون وهماً كاملاً، تدركه قلة منهم لكنها تناور لتعظم مكاسبها، أو لتدفع عنها بعض الضرر، وتستغله أخرى كورقة سياسية لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد.

إن تقييم ما ورد بالتقرير لا يتم بعيداً عن وضع الأمر في نصابه وسياقه الطبيعي بعيداً عن المزايدات والمشاحنات والتربصات والآمال المعلقة والأوهام المجردة، ولهذا فقبل أن يناقش أحد ما ينطوي عليه التقرير من مضامين ومعلومات عليه أن يمعن النظر في هذه الملاحظات:

1 - هذه المشكلات التي أوردها التقرير ليست من صنع ثورة 25 يناير ولا رئيس الوزراء عصام شرف وإنما هي من ميراث مبارك وتركته الثقيلة التي خلفها وراءه ويحتاج التخلص منها إلى وقت.

2 - إن التقرير تقليد سنوي، لا يخص مصر وحدها وإنما يتناول حالة الحريات الدينية في 189 دولة بما فيها الولايات المتحدة. كما أنه لا يضع مصر في الدول الأكثر انتهاكاً لهذا النمط من الحرية بينما وضع فيها كلاً من ميانمار والصين وإريتريا وكوريا الشمالية ودولاً أخرى.

3 - لا يستهدف التقرير الإسلام كدين، بل إنه يندد بالاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون في بعض الدول مثل ميانمار، التي قامت سلطتها قبل عقود بقتل عشرات الآلاف من المسلمين وصنعت أهرامات من جماجمهم، وطردت مئات الآلاف إلى بنجلادش. كما يبدي التقرير انزعاجه من عدم احترام حقوق المسلمين في أوروبا في ظل الخوف العام المتزايد من الإسلام.

4 - لا يستثني التقرير الولايات المتحدة نفسها من وجود نقائص في الحريات الدينية، وهو ما اعترفت به وزيرة الخارجية الأميركية حين أكدت أن التقرير لا يعفي بلادها من مسؤولية مكافحة التمييز الديني فيها، والحفاظ على حقوق الأقليات الدينية وكذلك حقوق من لا دين له، وأن هناك شكاوى تتعلق بجرائم الكراهية والتمييز على خلفيات دينية داخل أميركا يحقق فيها الآن.

5 - على رغم أن الإدارة الأميركية تزعم أن ما ورد في التقرير لا يعبر عن رؤية الأميركيين للحريات الدينية، بل يعكس ما تتضمنه القوانين الدولية وميثاق حقوق الإنسان، فإن استغلال واشنطن لمثل هذا التقرير في الضغط على أنظمة بعينها أمر متوقع. ولكن مستوى الضغط ودرجته والإصرار عليه من عدمه يتوقف على علاقة هذه النظم بالسياسات الأميركية. وفي حالة مصر فإن واشنطن لا تزال تنظر إليها باعتبارها حليفاً استراتيجيّاً، ومن ثم فليس من المتوقع أن يتمادى الأميركيون في استعمال التقرير لدفع السلطات المصرية إلى اتخاذ إجراءات ترى واشنطن أنها ضرورية لتعزيز الحريات الدينية.

6 - إن ادعاء الإمبراطوريات أنها مهتمة بقضايا الحريات والتنوير والتقدم في العالم ليس جديداً، بل يستغل كأداة من أدوات تحقيق مصالح هذه الإمبراطوريات. ويقدم الباحث الألماني هيرفريد مونكلر في كتابه الأثير quot;الإمبراطوريات: منطق الهيمنة العالمية من روما القديمة إلى الولايات المتحدة الأميركيةquot; أدلة دامغة على هذا. والولايات المتحدة أنشأت إدارة لحقوق الإنسان في وزارة الخارجية خلال فترة حكم كلينتون لاستخدامها في الضغط على بعض الأنظمة غير المتوائمة مع سياسة أميركا في العالم.

7 - إن حالة الحريات الدينية في مصر ليست على ما يرام، ولكنها لا تصل إلى حد الاضطهاد، فهذا مصطلح يقوم على وجود نصوص وإجراءات تجعل فئة أو طائفة أو شريحة ما منبوذة ومهضومة الحقوق الأساسية المتعلقة بكرامة الإنسان وحاجته الطبيعية. أما ما تعاني منه مصر فهو التمييز على أساس الدين، حيث يحرم المسيحيون من تولي بعض الوظائف العامة الكبرى. ولكن هناك أشكالاً أخرى من التمييز على أساس الإقليم والطبقة، فالمهمشون يعيشون حياة غير آدمية، وأبناء البدو يعاملون كالغرباء، وأغلب قاطني الصعيد يعانون من حرمان اقتصادي مزمن.

8 - يخلط التقرير بين quot;السياسيquot; وquot;الدينيquot; فـquot;الإخوانquot; مثلًا كانوا أيام حكم مبارك مضطهدين في السياسة، حيث الاعتقالات المستمرة والمحاكمات العسكرية وعدم تمكينهم من ممارسة حقوقهم كمواطنين، لكنهم لم يكونوا مضطهدين في quot;الدينquot; أبداً. والمسيحيون يواجهون تمييزاً على أساس الدين، لكن جزءاً كبيراً من التمييز السياسي ضدهم يعود إلى سلبيتهم ورهن إرادتهم السياسية بيد رجال الكنيسة، الذين يقدمون رعاياهم قرباناً للسلطة في كل انتخابات، ويعززون مصالحهم الذاتية على حساب المصلحة العامة للمسيحيين.

9 - يعود جزء من تردي أحوال الحريات الدينية في مصر إلى المرض العضال الذي أصاب الحريات العامة جراء التصرفات التي انتهجتها السلطة السابقة، لكن جزءاً آخر يُعزى إلى إرادة المؤسسات الدينية نفسها فالأزهر يضغط للتضييق على الشيعة ولا يروق له تصحيح بعض المفاهيم، والكنيسة الأرثوذكسية تضغط لحصار التابعين لكنيسة ماكسيموس، وتمتعض من التبشير الذي يقوم به البروتستانت والكاثوليك في مصر.

10 - هذا تقرير غير ملزم، لأن أميركا ليست لها ولاية ولا حق قانوني يتيح لها ترتيب الأحوال الدينية بدول مستقلة ذات سيادة، وهذا الحق منصرف فقط إلى المؤسسات التابعة للأمم المتحدة. لكن التقرير مفيد في تسليط الضوء على مشاكل لدينا، علينا أن نعالجها ذاتيّاً بعدالة ونزاهة واقتدار حتى لا نعطي الآخرين فرصة لدس أنفهم في أمورنا.

11 - لا يمكن فصل التقرير عن النموذج الاجتماعي الغربي، المليء بالعيوب والثقوب الذي يفشل حتى الآن في حل مشكلات مطروحة على المجتمعين الأوروبي والأميركي، ولا يرقي أبداً إلى النموذج السياسي الذي أنتج الديمقراطية ولذا علينا أن نتعلم منه ونحذو حذوه، بينما لن يكون من المفيد أن نعتقد أن المقترحات الاجتماعية الغربية قابلة للتطبيق بحذافيرها في بلادنا. وعموما فهذا التقرير الأول عن مصر بعد الثورة، وأتصور أن الخطى التي تقطعها البلاد في الوقت الراهن نحو الديمقراطية والعدالة ستؤدي إلى اختفاء هذه المشكلات تدريجيّاً.