مع المشاهد التي تحملها وسائل الإعلام، خاصة القنوات الفضائية من سورية لتغطية الثورة وردود الفعل من قبل النظام، التي بلغت ذروة القسوة والعنف، الذي وصل بالنظام إلى حد قتل الناس في الشوارع وعلى الأرصفة مع دخول الدبابات إلى المدن السورية ومحاصرة الناس في بيوتهم، بل قصفهم وهم نيام آمنون. ومع صور القتلى وهم يسحبون من الشوارع، والرصاص الذي يتساقط على من يحاول إنقاذهم، ومع أخبار قتل النساء والأطفال واعتقال الآلاف والزج بهم في السجون، ومتى بعد رفع حالة الطوارئ! ومع كل هذه المآسي لا مفر من أن يتأمل المرء في هذه المشاهد ويطرح التساؤلات: هل ما يراه الإنسان حقيقة؟! وهل ما يراه وينقله السوريون عبر الفضائيات رغم التعتيم الإعلامي يتسق مع ما يدعيه النظام الذي يحكم سورية منذ 40 سنة؟!
هذه الصور لا يمكن عزلها عما لدى الفرد من معلومات بالقراءة أو بالخبرة بشأن القطر السوري العزيز، وأول هذه الأشياء مشاهد وعبارات رأيتها وسمعتها مباشرة وفي شوارع سورية، وذلك حين مات الرئيس السوري حافظ الأسد، حيث كنت وقتها هناك في دمشق، ووجدت نفسي مضطراً إلى النزول للشوارع لمعرفة ما يحدث، وما يدور، وكيف يحدث، كان شباب في سن المراهقة يجوبون الشوارع في سياراتهم مع وجود أفراد كبار يوجهون المسيرات، والغريب أن الجمهور الشبابي يردد عبارة بالروح بالدم نفديك يا بشار وهم يلوحون بأيديهم، هذه العبارة تتكرر حتى قبل دفن والده، وكأن الأمر مرتب من قبل، وهذا ما حدث بالفعل، حيث غَيَّر الدستور ليتناسب وسن بشار في ذلك الوقت، وتحقق له ما يريد، ولمن يدور في فلكه، ويستفيد من خدماته خارج سورية.
تذكرت هذه المشاهد حين شاهدت خلال الأسابيع الماضية آلاف المتظاهرين الذين ينادون بالحرية وإسقاط النظام، وفيما بعد حين واجههم النظام بالسلاح والدبابات والمدافع والقتل دون تمييز، وكأن النظام يقول لهم بالدم الذي يسيل في الشوارع سيستمر، ويبقى رغم أنوف المطالبين بالحرية والخلاص من بطش النظام، وسطوته الأمنية، التي أنهكت السوريين وأحالتهم إلى ما يشبه الآلات خلال العقود الماضية. وما يفعله النظام في المدن السورية كافة يتزامن وتصريحات لرموز النظام. حيث صرح رامي مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد ومالك امبراطورية الاتصالات في سورية لإحدى الصحف الأمريكية، بأن النظام سيحارب حتى النهاية، وأردف قائلاً: إن عدم استقرار سورية سيؤدي بالضرورة إلى عدم استقرار إسرائيل، وكأن إسرائيل وأمنها من اهتمامات، بل مسؤوليات النظام السوري.
عندما قرأت هذا التصريح لرامي مخلوف عادت بي الذاكرة إلى كتاب سبقت لي قراءته قبل 20 عاماً بعنوان: ''سقوط الجولان''، ومؤلفه طيار في سلاح الجو السوري حاول الانقلاب على نظام حافظ الأسد، لكن المحاولة فشلت وهرب الضابط خالد خارج سورية، يقول الضابط: إن مهندس سقوط الجولان هو حافظ الأسد مع وعد له بتسلم حكم سورية، مقابل المحافظة على أمن الحدود الشمالية لإسرائيل، وهذا ما حدث بالفعل، حيث تسلم حافظ الأسد حكم سورية، ووفى بوعده في حماية أمن إسرائيل، إذ لم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، بل لم تشاهد دبابة واحدة في هضبة الجولان، بينما تمكن النظام من اجتياح المدن بالدبابات، وقتل الأبرياء الذين تجرأوا وطالبوا بحريتهم وحقوقهم.
هل بقي ما يخفيه النظام السوري بعد توجيه الدبابات لاستباحة المدن ومحاصرتها وقتل الشعب السوري؟ والذي أشغل الناس داخل سورية، وخارجها أنه قائد دول الصمود والتحدي، أو الممانعة فيما بعد، يبدو أن هذه المصطلحات التي يتخذها النظام بهدف كسب شعبية في العالم العربي لم تعد تنطلي على أحد، وانكشف المستور ليس من خلال ما يقوله قادة المعارضة وأنصارها، بل من خلال أفعال النظام بشعبه الذي صبر خلال عقود أربعة على الظلم والاستبداد والتخلف الاقتصادي والتقني، فمن يتصور أن أجهزة الصراف الآلي لا وجود لها قبل ثماني سنوات في سورية، وكذلك الهاتف الجوال. الشعب السوري الذكي، وصاحب المهارات العالية عاش أقسى مراحل تاريخه تحت شعارات حزب البعث الفارغة، الذي لم يترك مصطلحاً إلا وأطلقه على الشعب السوري خلال الأسابيع الماضية، فتارة يصفه بالمندس، وأخرى بالإرهابيين وقُطَّاع الطرق، وثالثة وهذه هي الأدهى والأمَرُّ حين يصفهم بالسلفيين، ويبدو أن النظام يتخبط في استخدامه هذا المصطلح، إذ إنه يشعل نار الفتنة الطائفية التي يتهم الآخرين بها، إذ كيف يصنف رموز النظام أنفسهم من الناحية المذهبية؟
إن تحرك الدبابات في المدن السورية، وسماح إسرائيل للجيش السوري بالتحرك في المنطقة العازلة بين سورية وإسرائيل يؤكد ما كان ينكره البعض من علاقة مشبوهة بين النظام ودولة الكيان الصهيوني، حتى إن كانت الجعجعة الإعلامية لنظام البعث طوال هذه السنين تعزف على وتر الصمود والممانعة، وأكبر دليل هو ما يشاهده الناس، وما عاناه الشعب السوري طوال العقود الماضية وخلال هذه الأيام، في حين أن النظام اكتفى حين دمر الكيان الصهيوني المبنى الذي يشك أنه مفاعل نووي بأنه سيرد في الوقت المناسب، وبالفعل جاء الرد ضد الشعب السوري المطالب بالحرية.
التعليقات