بالأمس أبرزت الصحف خبر إيقاف سيدة أربعينية في محافظة الرس؛ لأنها قادت سيارتها المتهالكة كي تشتري الطعام من محل للتموينات رغم أن النساء في الصحاري والأرياف يقدن السيارات منذ قديم الزمان دون أن يواجهن أدنى مشكلة، ولكن يبدو الأجواء المشحونة التي نتجت عن قضية منال الشريف انسحبت على هذه المرأة البسيطة (والتي لا أظنها تعرف شيئا عن حملات الفيس بوك) فمنعت من أمر تمارسه الكثير من نساء البادية والأرياف دون أن ينكر عليهن أحد هذا السلوك الطبيعي.
قيادة المرأة للسيارة أمر (غير مسموح به) ولكنه في الوقت ذاته أمر (غير ممنوع) بنصوص صريحة، وبين منطقتي (عدم السماح) و(عدم المنع) حاولت منال أن تطالب بحقها الذي حرمت منه بسبب تردد المجتمع الحائر، ومن المثير للاهتمام أن يكون قيام المرأة بقيادة سيارتها في المدن المزدحمة التي تجوبها الدوريات الأمنية أمرا يدعو للقلق، بينما يعتبر قيام امرأة بقيادة سيارتها في صحراء خاوية مسألة طبيعية جدا!.
باختصار لو استمرت منال تقود سيارتها داخل محيط شركة أرامكو لما واجهت أية مشكلة، وكذلك هي الحال لو ذهبت منال الشريف إلى الصحاري والأرياف حيث يمكنها قيادة سيارة (بيك أب) دون مشكلات أيضا، ولكن قيادة منال لسيارتها داخل المدينة هو الأمر الذي يستفز جميع الأطراف، فالمجتمع السعودي لم يكن يواجه أية مشكلة مع المرأة حين كان يعيش حياة البداوة، حيث يسيطر قانون القبيلة الصارم على الصحاري الشاسعة، وكذلك الأمر في الأرياف حيث بقيت المرأة تبيع وتشتري وتزرع وترعى الماشية وتتعامل مع كل أبناء قريتها بندية وهي واثقة تمام الثقة أن قوانين القبيلة وقيم العائلة الواحدة هي التي تحميها من الأذى، ولكن في المدينة الحديثة واجه المجتمع السعودي معضلته التاريخية مع المرأة، حيث سيطر الشعور بالغربة على ضمائر الكثير من الرجال الذين وجدوا أنفسهم أمام قانون عام لا يثقون فيه قدر ثقتهم بقانون القبيلة الذي تركوه في الصحاري والقرى التي جاءوا منها، لذلك عملوا على عزل النساء بشتى الطرق؛ لأنهم يعتقدون أن حياتهم في هذه المدن الكبيرة هي مجرد مغامرة طارئة يجب أن يبعدوا النساء عنها ما أمكنهم ذلك.
إنهم غرباء يعيشون بين غرباء، والغرباء لا يثقون ببعضهم البعض وليس لديهم أدنى استعداد لأن يتخلوا عن حرصهم الشديد فتتساقط المشكلات الافتراضية على رؤوسهم في لحظة غفله؛ لذلك تتعامل عقول الرجال بمهارة مع أكثر أجهزة الكمبيوتر تعقيدا ولكن قلوبهم لا تطمئن إلا في صحراء النفود ... بالتأكيد لو قادت منال سيارتها في صحراء النفود لما اعترض عليها أحد ولما تعرضت للمتاعب بسبب قسوة أهل المدن!.