محمد خليفة

في كلمة لرئيس الوزراء ldquo;الإسرائيليrdquo; بنيامين نتنياهو أمام اللجنة الأمريكية لشؤون ldquo;إسرائيلrdquo; العامة (إيباك) في 24/5/،2011 أكد يهودية ldquo;إسرائيلrdquo; قائلاً إن تل أبيب ترفض العودة إلى حدود ،1967 وإن القضايا العالقة مع الفلسطينيين لن يتم حلها إلا إذا تم التعامل مع ldquo;إسرائيلrdquo; كدولة يهودية . ويأتي هذا التصريح في ظل اشتداد حدة التوتر ومشاعر العداء ضد الفلسطينيين من جانب اليمين المتطرف ldquo;الإسرائيليrdquo;، وبالأخص مع إحياء ldquo;إسرائيلrdquo; ذكرى ما تسميه عيد ldquo;استقلالهاrdquo; الـ63 الذي يمثل نكبة شعب فلسطين .

وكانت صحيفة ldquo;هآرتسrdquo; قد نشرت الاستطلاع الاجتماعي الذي أجراه مكتب الإحصاء المركزي ldquo;الإسرائيليrdquo; والذي أظهر أن 42% من سكان ldquo;إسرائيلrdquo; اليهود يعرفون أنفسهم بأنهم علمانيون، و8% أصوليون (حريديم)، و12% متدينون، و13% تقليديون متدينون، و25% تقليديون ولكن ليسوا متدينين جداً . وأوضح الاستطلاع أن ldquo;الإسرائيليينrdquo; يواجهون أزمة هوية ldquo;دولتهمrdquo; هل هي يهودية وديمقراطية أم يهودية وعلمانية، وما إذا كانت اليهودية ديانة أم ديانة وقومية، ناهيك عن العلاقة بين الديانة اليهودية والحركة الصهيونية التي تعد حركة علمانية، حيث كان مؤسسها ثيودور هيرتزل غير ملتزم بطقوس الديانة اليهودية . لكن منذ نشوئها عملت على استغلال الديانة اليهودية من خلال برامج محددة ما جعلها حركة علمانية ذات صبغة استثنائية، حيث أفرغت المفاهيم الدينية اليهودية من محتواها الروحي حتى تستطيع تعبئة اليهود في العالم وضمهم إلى صفوفها .

غير أن العديد منهم رفض مشروعها الصهيوني نظراً لتعارض الأهداف الصهيونية مع العقيدة اليهودية واعتبروا أن الدعوة إلى العودة إلى أرض فلسطين المقدسة قبل ظهور ldquo;الماشيح المخلصrdquo; ستلحق الأذى بهم وبديانتهم لأنهم يؤمنون بأن العودة إلى أرض الميعاد ستكون بأوامر ربانية وعليهم أن ينتظروا الأمر الإلهي .

لكن في ظل استمرار الصراع العربي - ldquo;الإسرائيليrdquo; ومقدرة الصهيونية على تضليلهم من خلال إنجازاتها على الصعيدين السياسي والعسكري تقبلت الجماعات الدينية اليهودية المعارضة مبادئ الصهيونية وبالتالي تنازلت عن بعض مبادئ الدين من أجل تبرير إقامة دولتهم الموعودة، غير أنه لم يبق من المعارضين سوى جماعات قليلة ممن رفضت الهجرة إلى فلسطين من بينها جماعة ناتوري كارتا . والآن تختلف أوضاع علمانيي ldquo;إسرائيلrdquo; الساعين نحو نظام غربي ليبرالي عن علمانيي العالم، لأنهم يطالبون بدمج اليهود المتدينين في المجتمع والحد من نفوذهم بعد أن تمكنوا من ابتزاز الحكومات المختلفة التي كانت تلبي دوماً مطالبهم حتى تحصل على غالبية الأصوات في الكنيست، مع أن العلمانية تعني فصل الدين والمعتقدات والاعتبارات الدينية أو الغيبية عن الحكم والسياسة والحياة العامة، وتعتمد على استخدام المنهج العلمي القائم على العقل في إدارة جميع شؤون الحياة بعيداً عن أي معتقدات دينية لاهوتية، واتجاه ونظام اجتماعي يرتكز على وجوب استناد القيم الخلقية إلى أساس الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي بغض النظر عن الدين، ولا تنهى عن اتباع دين معين وإنما تطالب بفصل الدين عن الدولة، بحيث يصبح التدين مسألة شخصية بين الإنسان وربه . وعندما ظهرت العلمانية لأول مرة عند توقيع معاهدتي ldquo;صلح وستفالياrdquo; للسلام في وستفاليا بألمانيا في عام ،1648 كانت تلك البداية لنشوء الدولة القومية العلمانية في أوروبا، وإرساء نظام جديد يستند على مبدأ سيادة الدول وإلى علمنة ونقل ممتلكات الكنيسة إلى سلطة الدولة المدنية، كما وضعت نهاية للحروب الدينية في أوروبا المتضمنة حرب الأعوام الثلاثين في الإمبراطورية الرومانية المقدسة وحرب الأعوام الثمانين بين إسبانيا والجمهورية الهولندية . وقد مرت العلمانية بثلاث مراحل رئيسية، حيث اتسمت المرحلة الأولى بالتحديث المرتكز على العلم والتكنولوجيا، وبسيطرة الفكر النفعي والمادية المطلقة على مناحي الحياة، وبظهور الدولة القومية العلمانية في الداخل والاستعمار الأوروبي في ما وراء البحار بهدف تحقيق زيادة في الإنتاج . أما المرحلة الثانية فقد اتصفت بالحداثة وبكونها مرحلة انتقالية استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمق آثاره على كافة أصعدة الحياة، وهددت الدولة القومية والنزعات العرقية والأسواق المنعدمة القيم والروح الاستهلاكية دون ضوابط، وتحول الاستعمار العسكري إلى الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي .

وفي المرحلة الثالثة التي تلت الحداثة تنامت العولمة، وبرزت الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتحولت القضايا الدولية من التحرر من الاستعمار إلى قضايا البيئة والفقر وثورة المعلومات والهندسة الوراثية، وضعفت الكيانات الاجتماعية مثل الأسرة وحلت محلها أشكال جديدة في ظل غياب الثوابت الأخلاقية في المجتمع والتقدم التكنولوجي غير المسبوق . أما العلمانية ldquo;الإسرائيليةrdquo; تسعى لتفريغ الدين الإسلامي من مضمون حضارته الأصيلة وتتجاهل أن الإسلام دين ودنيا ونظام متكامل في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وبالتالي يصعب عزله وجعله ديناً فقط .

على الأمة العربية والإسلامية القيام بدورها على أكمل وجه في مرحلة سقوط الإيديولوجيات والانعطاف الإنساني الراهن للخروج من الأزمة الروحية، وأن تتوجه بإيحاء من الحدس والفطرة والعقل والعاطفة، وأن تدرك أن حينما تستلهم الماضي فإن عليها ألا تعيش فيه، فالحياة صيرورة وجود في تطور دائم وتبدل مستمر، يحركها الاستبصار الذي ينفذ إلى عوالم جديدة وتجارب جديدة، فالوضع الراهن واتجاهاته المستقبلية يستوجب أن تكون الأمة شديدة الحذر والتعقل في كل عمل تأتيه كي لا تصبح مجرد أحجار شطرنج على رقعة التنافس بين دول العالم، إذ إن من شأن الابتعاد عن الدين دنيا ومنهجاً أن يجعلها تدور في حلقة من العبثية والعدم، وتفقد قدرتها على فهم الأبعاد المتعالية للحياة، وتتفرق صفوفاً وتختلف كلمة وتنشطر إلى عصبيات إقليمية وطائفية ومذهبية وعشائرية، أما اليوم لم تعد العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، بل أصبحت كنقيض للدين، بالإضافة إلى أن العلوم الحدسية التي تهيمن على ميادين العلم قد أسقطت العلمانية بعد أن أصبحت كافة العلوم بمثابة الدليل على وجود عالم الماورائيات، فالعلمانية تتحرك ضد الفطرة الإنسانية وتجرد الإنسان من ماضيه وقدره وأعماقه وتحمله إلى عالم فقد المبادئ التي تضفي عليه الحقيقة والمعنى . بينما العقيدة ذات الإيديولوجيا الواحدة تجعل من الإنسان وحقوقه محور المجتمع وأساس الدولة، وتحافظ على ذاتية الأمة وهويتها وتمكنها من ممارسة رسالتها الخالدة