فيصل القاسم


لا شك أن الأنظمة العربية قدمت quot;لشيطانها الصهيونيquot; خدمات جليلة يعجز عن وصفها اللسان، ولا تـقدر بأثمان بشهادة علية القوم من العرب، هذا في الوقت الذي كانت أبواقهم الإعلامية على مدى عقود تكيل له اللعنات، وتقذفه بكل أنواع الجمرات ربما كنوع من التغطية على تواطئها وعمالتها له. وحتى لو لم يكن التواطؤ مباشراً، فما الفائدة أن تلعن الصهيونية ليل نهار في أبواقك الإعلامية وأدبياتك السياسية ثم تحقق لها على أرض الواقع عملياً كل ما تبتغيه من خلال سياساتك البائسة التي تصب في نهاية النهار في مصلحة عدوك؟
إن معظم السياسات العربية بحق الشعوب والأوطان تبدو وكأنها كانت مصممة لخدمة إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر، فلا تغترّن بالحملات الإعلامية العربية التي تهاجم الصهيونية صبح مساء، فكثرة الشتائم ضد الدولة العبرية لا تعني بالضرورة أن أنظمتنا تناصبها العداء فعلاً. فهناك مثل صيني جميل يقول: quot;إن الكلاب التي تنبح كثيراً لا تعضquot;. وبالتالي فقد تكون تلك الحملات ضد ما كنا نسميه بـquot;الكيان الصهيونيquot; لذر الرماد في العيون لا أكثر ولا أقل، إن لم تكن لمجرد التغطية على الخدمات التي تسديها بعض أنظمتنا quot;للعدوquot; المزعوم وتمكينه في المنطقة.
سمعنا قبل عقود كلاماً مفاده أن السياسات التي ينتهجها معظم الدول العربية هدفها بالدرجة الأولى تحطيم مجتمعاتها وشعوبها وإبقائها في حالة تخلف وجمود كي تظل إسرائيل الدولة الأولى في المنطقة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وصناعياً وديموقراطياً. لكننا كنا نعتبر مثل هذا الكلام مجرد إشاعات مغرضة ومحاولات مشبوهة لتشويه سمعة الأنظمة العربية والنيل من وقوفها في وجه الأعداء. غير أن ما كنا نظنه خيالاً مريضاً بدأ يظهر بمرور السنين على أنه أقرب إلى الحقيقة منه إلى الأوهام، والأمور دائماً بخواتيمها. فالحال الذي آلت إليه معظم مجتمعاتنا العربية من بؤس وتخلف وانهيار وتدهور، وأدى إلى الثورات الحالية، يؤكد تلك النظرية، فليس المهم ما تقول بل ما تفعل. وما فعله الكثير من الحكومات العربية خدم quot;العدوquot; أكثر بكثير مما أضره. والأمثلة لا تـعد ولا تـحصى.
إن السياسات الشمولية والاستبدادية العربية جعلت إسرائيل تبدو في عيون العالم على أنها الديموقراطية المحترمة الوحيدة في المنطقة العربية. فهي لم تقم يوماً بقتل أحد مواطنيها اليهود، ولم تنكـل بعائلته، ولم تزر به في سجون وزنازين تحت الأرض لا تليق بالحيوانات الضارية لمجرد أنه ذم رئيس الدولة في جلسة خاصة أو انتقد ارتفاع أسعار البطاطا quot;القوميةquot;، ولم تحرمه من حقوقه الوطنية لأتفه الأسباب، ولم تبعده خارج البلاد ولم تمنعه من العودة إلى إسرائيل لأن أحد ضباط الأمن مستاء منه، ولم تتفنن في إيذاء شعبها، ولم تستخدم كل أجهزتها الأمنية والعسكرية وكلابها البوليسية لإخضاع مواطنيها وإهانتهم وإذلالهم وتعكير حياتهم وإفسادهم وتدمير مدنهم وقراهم وتخريب السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والفكر والحرث والزرع والضرع وتحويل البلاد إلى مزرعة لحزب الليكود أو العمل أو لأجهزتها القمعية. لقد كانت الصهيونية حريصة على كل يهودي في العالم، وتعمل على حماية الإسرائيليين حتى من النسيم العليل، ولا تألو جهداً في البحث quot;بسراج وفتيلةquot; حتى في مجاهل إفريقيا عن كل من قال إن أصله يهودي كي تجلبه إلى إسرائيل وترعاه.
لم نسمع يوماً أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية قد أخذت على عاتقها تحويل حياة الإسرائيليين إلى جحيم مقيم. صحيح أنها quot;عملت quot;السبعة وذمتهاquot; خارج البلاد، لكنها لم تقترف يوماً خطأً بسيطاً بحق أي يهودي حتى لو كان قاتلاً، فحتى الذي اغتال رابين يحظى بمحاكمة قضائية مثالية. على العكس من ذلك نجد أجهزة الاستخبارات في معظم الدول العربية،العسكرية منها والمدنية، تحقق كل انتصاراتها quot;التاريخيةquot; على المواطن العربي المسكين والذليل، بحيث حولت الناس إلى ثلة من العبيد والمتذللين، ولم نسمع يوماً أنها نفذت عملية يُعتد بها خارج أسوار الوطن المطوّب باسمها. وكلنا يعلم أن العبيد لم يحرروا يوماً أرضاً محتلة، ولم يبنوا مجتمعاً قوياً ولا حضارة. عجباً كيف تحارب أعداءك بشعوب مقهورة ومجتمعات مخرّبة ومتخلفة ونفوس منهارة؟ من الواضح أن الذي يتصرف مع شعبه بهذه الطريقة ليس عدواً للصهيونية، بل أكبر خادم لها وهي سعيدة بأمثاله، إن لم يكن موضوعاً في منصبه لتحقيق غايات الأعداء أصلاً، فمحاربة أقوى حركة في العالم الآن تتطلب سياسات وتصرفات غير التي نراها في هذا البلد العربي أو ذاك على مدى عقود.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن الحركة الصهيونية تـعتبر أخطر وأقوى حركة شهدها القرن العشرون، لكن ماذا فعل أعداؤها من العرب؟ بدلاً من أن يباروها في الإنجازات الاقتصادية والإعلامية الهائلة راحوا يدمرون مجتمعاتهم بشكل منظـم كي يجعلوها في نهاية المطاف لقمة سائغة في فم الصهيونية التي يزعمون أنهم يناصبونها العداء. وبدلاً من خلق مجتمعات صناعية وتكنولوجية واقتصادات حديثة لمنافسة التطور الصهيوني الخطير فقد حولوا بلدانهم إلى quot;سكرابquot; اقتصادي وعسكري وسياسي. فعادوا بالسياسة إلى عهد معاوية ويزيد والحجاج بدلاً من عصرنتها، وبدلاً من تكوين جيوش تنافس جيش الاحتلال الإسرائيلي حولوا الجيوش إلى مطايا للقمع والإرهاب الداخلي وبؤر للاسترزاق، فتحول الضباط إلى تجار ومتعهدين وأصحاب أرزاق وقصور منيفة وسيارات فارهة، كما لو أنهم يطمئنون العدو بأن ينام قرير العين، فيما غدا الجنود المساكين عبارة عن أقنان مستعبدين، إذ يُحكى أن أحد وزراء الدفاع العرب زار ذات مرة فيلقاً عسكرياً، فسأل الجنود عن احتياجاتهم فقالوا له: quot;إنهم لا يحصلون على ما يكفي من الطعام، وإن بعضهم يعاني من سوء تغذية، وإن ثكناتهم أقرب إلى حظائر الأبقارquot;، فرد الوزير: quot;وما المطلوب إذنquot;، فأجاب الجنود: quot;نريد جملاًquot;. فسأل الوزير: quot;أليس الجمل أكبر بكثير من أن يتناوله عدد من الجنود في وجبة واحدةquot;، فأجاب الجنود: quot;نحن يا سيادة الوزير نطالب بالجمل لأننا على يقين بأنه لن يصلنا منه بعد الذبح إلا أذنهquot;. وكذلك الأمر طبعاً لبقية الشعب الذي لم يرم له جلادوه وجلاوزته سوى الفـتات، بينما استأثروا هم بالقسم الأعظم من إجمالي الناتج القومي، أو بالأحرى بالقمح والزيوان.
هل كانت إسرائيل تريد منكم غير أن تعاملوا شعوبكم كالأنعام، وتسوموها سوء العذاب، وتقمعوها، وترهبوها، وتدوسوها، وتجوعوها، وتحاربوها بلقمة عيشها، وتحولوا الأوطان إلى مزارع خاصة؟ آه لو كان لديك ذرة عرفان بالجميل أيتها الصهيونية لشيدت تماثيل من ذهب مرصعة بالألماس والأحجار الكريمة لمعظم الأنظمة العربية التي زعمت يوماً أنها ناصبتك العداء، ووضعتيها في كل الساحات والميادين الإسرائيلية إكراماً لها على خدمتك، فهي التي مكـنتك، وجعلتك تتربعين فوق عرش الشرق الأوسط، بينما ما زالت مجتمعاتنا، حسب كل تقارير التنمية البشرية الدولية، تعيش في غياهب القرون الوسطى تربوياً وصناعياً وتكنولوجياً وسياسياً. آه كم هي مضحكة بعض المزاعم العربية التي تعزو تأخرنا quot;للعدو الصهيونيquot;! ألم يحذر القذافي وأمثاله عندما أوشكوا على السقوط تحت ضغط الثورات المباركة من أن سقوطهم سيؤثر على استقرار وأمن إسرائيل، وكأنهم يؤكدون النظرية القائلة إن تلك الأنظمة البائسة لم تكن لتستمر كل هذه العقود لولا خدماتها quot;التاريخيةquot; العظيمة للصهاينة؟ آه كم أنت ناكرة للجميل أيتها الصهيونية!!