سمير الشيشكلي
أثناء مقابلة أجرتها إحدى القنوات العربية مؤخراً مع واحد من المعارضين السوريين، أشارت المذيعة إلى الدستور السوري باعتباره laquo;وثيقة رائعة غير أنها لا تـُـنفـَّـذ على أرض الواقعraquo;. وأعتقد أن السيدة المذيعة إنما قالت ذلك لتـُـبرز الهوة السحيقة بين أقوال النظام السوري والواقع المرعب الناجم عن أفعاله اليومية.
على أني أود في هذه العجالة أن أخالف هذا الرأي حول واقع الدستور السوري.
فهناك في عالم اليوم حكومات لا تزال تتعامل مع شعبها وكأنه لا يضم إلا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة إن لم يكن أسوأ من ذلك. غير أن قلة قليلة من البلدان تمضي إلى أبعد من ذلك فتعلن هذا النهجَ سياسة للدولة يجسدها دستورُها وتكرسُها وثائقــُها الأساسية. لقد فعل ذلك ستالين في الاتحاد السوفييتي في فترة ما بين الحربين العالميتين. وهذا بالذات ما كرّر فعله الرئيس الأسد، الأب، في دستوره الذي أعلنه عام 1973، بعد أقل من ثلاث سنوات على انقلاب استولى به على السلطة، كل السلطة، في البلاد. فقد نصّ هذا الدستور بصورة قاطعة لا لبس فيها على أن الأمة تنقسم إلى فئتين اثنتين: الأولى هي حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس، وهو كيانٌ رسالتــُه أن يكون laquo;الحزبَ القائد في المجتمع والدولةraquo;، الحزب الذي يعمل laquo;على توحيد طاقات جماهير الشعبraquo;. أما الفئة الأخرى فهي جماهير ذلك الشعب التي تتمتع إلى الأبد بالحق والامتياز الكبير في أن يقودها حزب البعث وأن يوظفها laquo;في خدمة أهداف الأمة العربية [الأوسع]raquo; (المادة الثامنة).
ولعل هذه المادة، كما يشهد التاريخ الدستوري، هي الوحيدة التي نــُـفذت بالكامل، لتـُذكــِّر السوريين دائماً وأبداً بأنهم في عرف النظام مواطنون من طينة أدنى، إن كانوا يتمتعون أصلاً بأي قدر من المواطنة. فالسوري في ظل الدولة البعثية العجيبة، وهي كما يدعي الدستور laquo;دولة ديمقراطية شعبية واشتراكيةraquo; (المادة الأولىndash; 1)، ليس مواطناً يحق له الاختيار والترشيح والانتخاب وما يتبع ذلك من حقوق مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، اللهم إلا بقدر ما يـُـقـدّره له ذلك الحزب الملهم.
على أن فكرة laquo;الحزب القائدraquo; كانت قد فـقدت أي مصداقية حتى قبل أن يجف الحبر على الورقة التي كــُتب عليها الدستور، وذلك بفضل التسلط الأمني وهيمنة المخابرات على laquo;المجتمع والدولةraquo; وبحكم الأمر الواقع الذي حول حزب البعث إلى laquo;حزبٍ للقائدraquo; وللمنتفعين من حكم الرئيسين، الأب والابن طوال السنوات الإحدى والأربعين. ومع ذلك فقد استمر نفاذ المادة الثامنة السيئة الصيت وإن بروح جديدة: إذ اكتسبت معنى لا ينصّ عليه الدستور، وغدت أداة معيارية تـُسبغ المشروعية والدستورية على الامتياز والتفرد والانتفاع الذي يخصّ به القائد جميع رجال الرئيس (ونسائه).
على ضوء هذا التحول في قيمة الدستور، لم يكن هناك ما يثير الدهشة عندما سمعنا الرئيس الأسد الابن، يتحدث في خطابه الثالث (20 يونيو/حزيران) يكل بساطة، بل وباستخفاف، عن دستور أبيه. فبعد قرابة 1700 شهيد وآلاف الجرحى وعشرات الآلاف من المعتقلين والمشردين داخل البلاد واللاجئين خارجها، وبعد نحو مائة يوم من الانتفاضة السورية، اكتشف الرئيس الابن إمكانية laquo;مراجعةraquo; الدستور بهدف laquo;تعديل بعض موادهraquo;، بل مضى إلى أبعد من ذلك لكي يقترح عملياً إحالة الدستور القديم إلى سلة مهملات التاريخ، معترفاً بأنه أصبح موضة قديمة لا تواكب laquo;المتغيرات التي شهدتها البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتي حصلت خلال العقود الأربعة الماضيةraquo;. لقد اكتشف الرجل أن هناك حاجة إلى laquo;إقرار دستور جديدraquo;. ولعله بات يرى الآن أن فرصته هو قد جاءت ليكتب ورقته بنفسه وعلى قياسه، تماماً كما فعل أبوه منذ أربعين سنة.
أما معنى ذلك كله فهو ما أتحفنا به شارحُ كلمة الرئيس الابن ووزير خارجيته عندما أوضح الأمور (22 يونيو/حزيران): فسورية الابن ستكتب دستورها الجديد، بل ستضيف إليه بضعة قوانين أخرى، ثم سنبدأ الحوار لنعطي الآخرين دروساً في الديمقراطية، في سورية وفي المنطقة وفي العالم أجمع... لم يبق إلا بضعة أشهر لتتحول سورية من الحاضر المخضب بالدماء إلى المستقبل الوردي!
تــُرى أي فائدة ستعود من تعديل الدستور، بل حتى من استبداله كلياً، على السوريين الأبطال الذين يفتحون الصدر عارياً أمام الدبابات مطالبين بالكرامة والحرية؟ إنهم يعرفون حق المعرفة أن بلدهم لا يـُحكم بالدستور وأن دستورهم، سواء دستور الأب أو دستور الابن، ليس إلا ورقة توت لا تسمن ولا تغني ولا تحمي. إن مطالبهم لا تتلخص بإصدار صكوك معيارية جديدة مفصلة على قياس الابن، صكوك ليس بمقدور نظام المخابرات والأجهزة المتأصلة أن ينفذها. فقد دأب هذا النظام على استغلال شعارات البعث الرنانة ليمتص رحيق الحياة وسبل العيش من الجسد السوري المقدس، مستخدماً في ذلك آلة للشر أدمنت الظلم والقتل والتشويه والتعذيب والتشريد والكذب والفساد. هذا النظام ليس بمقدوره أن يـُصلح نفسه وأن يحولها إلى حكومة دستورية طبيعية حقيقية. لم يكن للدستور ولا لأية قوانين في البلاد أي تأثير على مجرى أحداث الثمانينيات وعلى ما ارتكبه الرئيس الأب (هو وأخوه) من مذابح في حماة وحلب وجسر الشغور وتدمر وغيرها من المدن والبلدات السورية. كما لن يكون لأي دستور، قديماً كان أو مجدداً أو جديداً، أي تأثير على مجرى ما يرتكبه الرئيس الابن (هو وأخوه أيضاً) اليوم من فظائع في درعا وحمص وبانياس وحماة وجسر الشغور واللاذقية والمعرة وإدلب وسائر أنحاء الوطن. جـُـلّ ما يريده السوريون اليوم هو رفع أيدي الأجهزة الأمنية عن المجتمع والدولة وعن حياتهم ومقدراتهم وقدرهم.
الحلّ في سورية لا يكمن في دستور جديد وقوانين جديدة وإنما في تخليص البلاد والعباد من العقلية الأمنية التي هيمنت على المجتمع والدولة طوال ثمانٍ وأربعين سنة من ظلام البعث المخيـِّم. وليس نظام الأسد، وأيديه مضرجة بدم الشهداء، هو الذي سيقوم بهذه المهمة، فهو بكل بساطة غير قادر على ذلك. المعادلة اليوم هي أن السوريين لم يعودوا قادرين على أن يـُحكـَموا على تلك الشاكلة، وأن عائلة الأسد لم تعد قادرة على ممارسة الحكم بالشاكلة نفسها، بل لن يسمح لها الشعب بذلك. ولهذا بالذات فإن الحالة الثورية الراهنة ستــُـفرز لا محالة التغيير الحقيقي المنشود. عندها سيأتي الدستور الجديد الحقيقي وستأتي القوانين التي يمكن لها أن تكون نافذة.
أما إن لم يتحقق هذا التغيير فإن الدستور سيبقى على حاله اليوم: أقلّ قيمة من الورقة التي كـُـتِب عليها.
التعليقات