سمير عطا الله


في هذه الأزمة العالمية المجنونة والسافلة، أتأمل وضع قبرص، لا وضع أميركا أو أوروبا. هذه جزيرة كانت تتبع القانون في كل شيء حتى استخدام مياه المرحاض. ولا أقول ذلك مازحا أو مبالغا. لكن صاحب المنزل، وهو موظف كبير ومحام، كان يمر بي ويقف عند الباب ويقول لي: نحن في أزمة مياه، وأنت لا تعرف اللغة اليونانية: كل يوم يدعون على التلفزيون وفي الصحف إلى تقنين المياه. أرجوك! كانت الليرة القبرصية أغلى عملة في العالم. وكانت الجزيرة تعتبر أن المحافظة على الاقتصاد وعلى القانون وعلى النظافة هو محافظة على العائلة. ورويت هنا يوم وصلتني شحنة كتب إلى الميناء فذهبت أستلمها. فقال الموظف: أنت في حاجة إلى مخلص بضاعة. قلت: لكنها مجرد مجموعة كتب. قال: يجب أن نعثر لأولادنا على أعمال يعيلون أولادهم. وكانت القناعة كنز قبرص الذي سوف يتعرض للفناء. جاءها أولا اللبنانيون الهاربون من الحرب وراحوا يبذخون بفقاعة. ثم جاءها الصربيون الغانمون من الحرب ومعهم المال السائب. ثم جاء الروس بالشنط المليئة مالا مغسولا. واغترت قبرص. خدعوها بقولهم حسناء. وأخذت تغير عوائدها وسار حساب الأوفشور أهم من الوطن. وارتفعت الأسعار على الفقراء والبسطاء. ولم يعد القبرصي يجد حرجا في استقبال رجال المافيا. ولم يعد أصحاب المنازل يقرعون البيوت ليطلبوا منك توفير المياه، أو لينصحوك بأفضل دكان لشراء الزيتون، أو يدعونك إلى القرى الصغيرة ليرووا لك كيف حاربوا البريطانيين.

قرأت اسم قبرص بين الدول المدينة والمهددة، بعدما كانت بورصتها لا تعرف شارة الهبوط. ويضعون اسمها إلى جانب اليونان، مع أنها كانت مضرب المثل عند اليونانيين بالحرص وتقنين المياه ومحاولة استخدام المرحاض مرة واحدة في اليوم في مواسم الجفاف. ومع أنني لم أذهب إلى قبرص منذ عشرين عاما، فإني أشعر بشيء من الخيبة لأجلها. لقد أفسدها الانضمام إلى أوروبا وكثرة اليونانيين الذين يأتون إليها وبذخ رجال المافيا وكثرة التهتك وتحول قراها الصغيرة إلى تجمعات للأوروبيين.

انتهى الأمر. خرجت من وداعة القناعة إلى جحيم الطمع. وها هو العالم أجمع يسقط في عمليات النصب والاحتيال. أميركا تثقل بإسرافها الإجرامي على خزائن الأمم، واليونان تثقل بكسلها التاريخي على أوروبا، والبرتغال تكتشف أن لا علاقة لتخلفها بتقدم القارة، وإيطاليا تخلط مال المافيا بغناء سيلفيو برلسكوني، والفقراء في كل مكان يدفعون من جيوبهم الضريبة لعالم أزعر يعطي النصب والاحتيال أسماء علمية، غالبا مؤلفة من عدة كلمات، من أجل تغطية حجم النصب. وسوف يعلق علماء كثيرون على ذلك، بالقول ما علاقتك بالاقتصاد؟ سوف أقول لكم ما هي: أنا واحد من مئات ملايين الضحايا. وبالطبع المسؤول الوحيد هو أنا. فالغباء ليس عذرا قانونيا، وتكرار الوقوع يدخل في باب laquo;الحمرنةraquo; (من حمار، لا من أحمر)، وأقسم أنني أشعر بالأسى لقبرص أكثر مما لحالي.