عدنان سليم أبو هليل

quot; اسمح لي فخامة الرئيس أن أخاطبك بلغة الأب لابنه فأنت في سن أبنائي وخبرتك في السياسة والإدارة بالنسبة لما تحصل لي من ذلك خلال ملوكيتي على ملوك إفريقيا وعمادتي للحكام العرب قليلة وإنما أخاطبك وأنصحك بوفائي لذكرى والدك.. لا بوصفي رئيسا فما عدت أملك أمر نفسي أو أستطيع الإفصاح عن مكان إقامتي من دهليز في مقبرة أو شق في الأرض أو كوة في ظل شجرة .. ليس هذا هو الأهم .. ولكن اسمعني فلربما لا تواتيني الفرصة مرة أخرى لأقول لك وقد لا تواتيك لتسمعني ..
أرجو أن تفهم ما فهمته أنا بعد فوات الأوان .. أن الحاكم ndash; أي حاكم - إذا قهر شعبه وأفاض في كبته وإرهابه وبالغ في احتقاره ستأتي عليه لحظة يتخلى فيها عنه.. وعند ذلك تنهار كل معادلات الاستقرار والاستمرار بين يديه حتى لو ظلت فئة مسطحة من الناس حواليه أو حاول أن يقيم بدلها معادلات استقرار تعتمد على الخارج أو حاول أن يوالي أعداءه وأن يسلمهم أسراره ، أو حاول أن يسكت الناس بالبطش أو بشراء ضمائرهم أو بصرفهم إلى الفساد والإلهاء كما فعلت أنا وكما تفعل أنت .. أما التغطي بالصيغ الإعلامية الرنانة والشعارات الثورية الطنانة والمبالغة في الأكاذيب فهذا كله يصير في لحظة واحدة نكتة للتهكم ومزيدا من التدهور الأخلاقي أكثر منه أداة إقناع لإثبات أي شيء ..
لقد سمعت ذات مرة آية في القرآن تقول: ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.. ) فسألت أحد المقربين ممن يعلمون مواضع الآيات ومعانيها فقال لي إنها خاصة برسول الله ، أما حكام هذا الزمان فلا يحتاجون لتأليف القلوب فمن لا يتألف قلبه بالطاعة عن حب ورضا يتألف بالخوف وبكسر ظهره وظهر أهله حتى الجد العاشر .. لكنني اليوم تأملتها فوجدت شيئا لم أفطن له من قبل .. وجدت كأن الله تعالى يقول لنا: من فقد الإقناع الأخلاقي فلن ينجح في كسب الناس حتى لو كان يتمتع بمميزات النبوة .. وأقول: فكيف بنا ونحن لا نتمتع بأخلاقيات المواطنة في حدودها الدنيا فضلا عن أن نتمتع بمميزات النبوة ؟! وكيف إذا كنا متهمين بالتقصير في تحرير بلادنا التي إما ترزح تحت الاحتلال العسكري المادي المباشر أو مرتهنة للهيمنة الأجنبية خوفا وطمعا ؟! وكيف إذا كانت غلظتنا وقسوتنا وفظاظتنا على شعوبنا جرائم حرب وكانت قتلا وسحلا للأبرياء واستقواء على البسطاء وتحريشا بين المذاهب ؟! وإذا كنا نمنع شعوبنا من ممارسة حقها الطبيعي والتلقائي في الأمن وحرية التعبير وحتى في الفضفضة ؟!
واضح يا بني أنك تراهن على ثلاثة أمور كنت أنا أراهن عليها قبلك .. وأنت اليوم تتوهمها ستخدمك طول المدى وتظنها تبقيك إلى الأبد وإن فعلت ما فعلت أو قتلت من قتلت .. الأول : أنت ترتكن على سلمية الثورة وذلك يجعلك تتوهم نفسك قادرا على التصعيد والتخفيض بالقدر الذي تحتاجه وبما يضمن لك حلا سياسيا في نهاية المطاف يجنبك مصيرا كمصيري أو كمصير صاحبي حسني والزين .. الثاني: تظن أنك تملك من قوة الأمن والجيش ما تستطيع أن تحسم به أية ثورة داخلية وأن لديك جيشا وأجهزة أمنية أقيمت على ثقافة وولاء لشخصك وحزبك ما يجعلك تقوم بأية مغامرة .. الأمر الثالث : وتظن أن الغرب لن يتخلى عنك ولن ينقلب عليك إما لمعرفته بك أو لخوفه من بديلك .. وأقول لك :
لقد غاب عنك أن سلمية الثورة ليست عن ضعف ولكنها من أعظم الحيل التي تجلب لها التعاطف العالمي وتجذرها في الوجدان العام بقدر ما تفضح قسوتك وتضعك في مرمى حقوق الإنسان والقانون الدولي، وإن كنت بنيت خطتك على سلميتها فمن يضمن لك أن تبقى كذلك تحت وقع مشاهد القتل للناس وإهانتهم واعتدائك على القبائل والأعراض والأموال بالأخص إذا أطمعهم الغرب في نصرة دون ثمن من قيمة الاستقلال ومن معاني الوطنية ؟ .. وغاب عنك أن قوة أجهزتك الأمنية والجيش إنما يقوم معظمها على خوف الناس منها لا على قوتها الذاتية.. فهل ظل من ذلك شيء؟ وإن بقي منه فهل هو ذات الخوف الذي كان في الأربعين سنة الماضية ؟ وهل هو يزيد أم ينقص ؟ أما في أمر الغرب والاستقرار فقد غاب عنك أن القوة الحقيقية التي بها كان أعداؤك يهابونك وكان أصدقاؤك يراهنون عليك هي قوة الأخلاق والاستقرار والتفاف شعبك حولك ومعك ولك.. هذه القوة هي التي تجعل أي جيش غاز مهما كانت قدرته القتالية والتسليحية والتنظيمية مستعدا لتقبل الهزيمة والانسحاب بقدر ما تجعل أي شعب مغزو ومهما كان ضعيفا مستعدا للتضحية والنصر وهي معادلة القوة الحقيقية التي تردع الغرب وغيره .. وهي التي لم يعد مؤكدا أنك تملكها بعد انطلاق الثورة في بلادك وفيضانها من المتكلم للساكت ومن المتحرك للساكن ومن المعارض للموالي وانتقالها من مدينة لمدينة ومن محافظة لمحافظة ومن غرب لشرق ومن جنوب لشمال.. لقد غاب عنك أن السياسة ليس فيها صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، وغاب عنك أن الدول الكبرى لا توزع رضاها وولاءها عاطفيا أو أخلاقيا وأنها لا ترى نفسها ملزمة بمكافأة أحد من رصيد مصالحها الإستراتيجية..
وإن كنت توهم نفسك أو يوهمك من حولك من المطبلين أن للغرب فيك وفي بقائك وفي نظامك مصلحة لحماية الحدود الشمالية لـquot; إسرائيل quot; أو لضبط إيقاعات إيران أو لغير ذلك من المصالح فيجب أن تتذكر أن مصلحة الغرب فيك ليست أكبر ولا أهم من مصلحته فيّ ومن قبلي في حسني والزين اللذين كانا بين سحره ونحره ثم لما مال زمانهما بادر للتخلي عنهما! وعلى ذكر المطبلين فلا تتوهم أنهم معك في كل وقت أو أنهم سيضحون من أجلك بأنفسهم وبفلذات أكبادهم (واسألني أنا).. هؤلاء ما تبعوك إلا على المغنم والمطمع والنفاق.. وانظر لمن كانوا حولي وحول حسني والزين منهم كيف فروا أول الفارين وكيف كانوا الأطول ألسنا في ذمنا والأسرع في التبرؤ منا.. وعندما جد الجد قال لسان حالهم (ما على هذا اتبعناك) إنهم الغشاشون والمغشوشون .. وإنما يقدمون لنا اللسان الذي نريد حتى ينالوا به ما يريدون وهم لا يريدون إلا الارتزاق والقرب من الهيبة والسلطان .. وإن كنت تظن أن روسيا والصين ومن يصادقونك من نظم عالمية سوف يراهنون عليك إلى ما لا نهاية فيجب أن تتذكر أنهم تخلوا عني ومن قبلي تخلوا عن صدام.. وإن شئت فاسأل من حولك من هم أسن منك وأدرى بالسياسة لتعرف كم مرة تخلت روسيا والصين عن إيران وكم مرة تطابق خطابهما مع الإمبريالية والصهيونية.. أما إن كنت لا تحسب حساب الحصار الدولي والتدويل والعزل معتمدا على أن الأموال لا تزال بيدك وبيد جماعتك فاعلم أن الأمر قبل انفضاض شعبك عنك غيره بعد ذلك.. وصدقني ما هي إلا بقية وقت حتى تهرب رؤوس الأموال وأصحابها إلى الخارج وتذكر أن رؤوس الأموال جبانة وفرّارة ..
أخيرا وقد يكون آخرا .. لقد أطلت عليك وربما لأني لم يعد لي ما أشتغل به وحدثتك بلهجة على قدر من التنظيم لم يعتدها الناس مني ربما لأنني لم يعد أحد يكتب لي.. لكنني أنصحك بما أعتقد أنه فاتني أن أستفيد أنا منه وهذا هو الأهم ، ولئن سألتني ما الذي أتمناه اليوم ؟ لأقولن لك: أتمنى لو لم أكن القذافي الذي بت أكرهه أكثر مما يكرهه أي أحد، ولتمنيت لو أنني أبعدت أبنائي وأحفادي عن هذا المعترك، ولقلت لك لو أنني استقبلت من أمري ما استدبرت لما كان كثير من الذي يدور ولغيرت الكثير مما جرت عليه الأمور .. تحياتي وأمنياتي وإخلاصي.. quot;.
آخر القول: قال لي صاحبي: لماذا تكتب على لسان القذافي؟ قلت: هي محاولة لتمرير رسالة إشفاق ونصح بلسان التجربة لنظام كنا نراه ذات يوم في معسكر المقاومة فأيدناه ودافعنا عنه وربما لا نزال نشفق على المصير البائس والمصير اليائس الذي ينتظره .. قال لي: وهل تظن أنه يثوب إلى رشده ويتوب إلى ربه أم سيظل يتخبط في شره ويتلبط في نفاق مرتزقته؟ فقلت له: (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) ..