خليل حسين
مفارقة السلوك السياسي العربي خلال العقدين الماضيين، كثرة التصفيق لفواعل إقليمية تبنّت قضايانا، لا حباً بنا ولا غاية في حلها، وجل ما في الأمر كانت وسائل وشعارات جذابة هدفها ركوب موجة الجماهير والأنظمة معاً . واللافت مؤخراً، التنافس الإيراني التركي على مواجهة ldquo;إسرائيلrdquo; كل على طريقته، في وقت نقف نحن العرب مشدوهين حائرين، مشغولين بالانتفاضات على أنظمتنا حتى وإن كنا غير فاعلين فيها .
في عز العدوان ldquo;الإسرائيليrdquo; على غزة العام ،2008 رفعت تركيا صوتها عالياً في دافوس، وفي العدوان ldquo;الإسرائيليrdquo; على لبنان عام 2006 أدارت مفاوضات سورية ldquo;إسرائيليةrdquo; غير مباشرة، فيما اليوم تطرد السفير ldquo;الإسرائيليrdquo; من أنقرة وتخفض التمثيل الدبلوماسي . وفي الوقت نفسه، وافقت على وضع رادارات حلف الناتو على أرضها، مجموعة من المواقف والسلوكيات السياسية تعطي طابعاً برغماتياً للسياسة التركية في منطقة شديدة التعقيد، تمتزج فيها المصالح بالمبادئ، كما القومي بالوطني إلى ما هنالك من تناقضات من الصعب جمعها إلا في ظروف استثنائية كالتي تمر بها منطقتنا العربية .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل إن تركيا قادرة على تحقيق طموحها إلى زعامة المنطقة؟ وهل ستُترك الساحة لها؟ في الواقع وإن كانت تركيا تتموضع في المرتبة ال 16 عالمياً لجهة القوة الاقتصادية، حيث نعمت باستقرار سياسي اجتماعي استثمر اقتصادياً ولو بجزئه اللافت سياحياً، أخذت في الآونة الأخيرة التحرك خارجياً عبر سياسة المساعدات الاقتصادية وهي ذراع من أذرع السياسات الخارجية لأي طموح إقليمي واعد، حيث تبلور باتجاه دول الجوار الجغرافي، وصولاً إلى القرن الإفريقي عبر الصومال من بوابة المساعدات الإنسانية، وهي إشارات بالغة الدلالة، ومحاولات للانتقال إلى مراحل أكثر تقدماً واتساعاً ذات أبعاد قارية لا إقليمية فقط .
وإذا كانت هذه الفتوحات السياسية المغلفة بقفازات إنسانية قد ظهرت في غير مكان إقليمي، لها ما يبررها عملياً ومن بينها ضعف المواجهة العربية وغير العربية، تبقى لها دلالاتها الرمزية على الواقعين العربي والإقليمي، وبخاصة ldquo;الإسرائيليrdquo; والإيراني . فثمة تنافس قوي لا حدود له لتزعّم المنطقة من قبل ثالوث لكل منه خلفياته الأيديولوجية ومصالحه وحتى لطريقة تعامله مع كل مستجد تكتيكي أو استراتيجي . وفي مطلق الأحول نبقى نحن العرب حائرين تائهين لمن نصفق في معرض الدفاع عن قضايانا .
ثمة معوقات تركية من الصعب القفز فوقها لتحقيق قفزات نوعية في سياساتها الإقليمية والقارية، معوقات تبدو في أغلبيتها بنيوية، فالجغرافيا السياسية التركية تبدو أكثر ملاءمة كموقع التصاقي، وهو خارج عن كونه احتضاني أو مركزي، ويتآلف مقصداً وتوجهاً مع الموقع السياحي لا السياسي . وصحيح أن العامل الديني وبالأخص المذهبي، يتآلف مع المحيط العربي، إلا أنه يتباين لغوياً، بمعنى أن العامل الديني والمذهبي لا يلعب دوراً ثقافياً أو حضارياً متجانساً مع المحيط العربي، فضلاً عن الخلفية التاريخية للدور العثماني في حكم المنطقة العربية ومحاولة تتريكها، والقضاء على عوامل قوميتها العربية التي لم تظهر بقوة إلا بعد الثورة العربية الكبرى على الحكم العثماني عام 1916 . كما يرتبط بالعامل اللغوي عامل الهوية التي تعيشها تركيا بحيرة واضطراب، حيرة التوجه جنوباً وطموح التوجه شمالاً، الحنين إلى جنوب حكمت فيه قروناً، وآمال الاندماج المستحيل شمالاً؛ وصعوبة التوفيق بين حنين الدولة الإسلامية ورعاية مصالحها الاقتصادية أوروبياً، وبالتالي من الصعب على تركيا التضحية بمشاعر لا تصرف سياسياً ولا اقتصادياً .
إن عامل الكتلة البشرية يشكل تنافساً شديد التعقيد في منطقة مكتظة بالكتل السكانية ذات الألوان القومية غير المتآلفة تاريخياً . صحيح أن تركيا بتعدادها تشكل رقماً لافتاً، إلا أنها تواجه بكتل بشرية وازنة كمصر وإيران والسعودية والعراق، وبالتالي ثمة وزن بشري متصادم قومياً: العثماني والفارسي والعربي .
سياسياً، وإن اتجهت تركيا جنوباً، فهي لم تقدم حتى الآن مشروعاً سياسياً متكاملاً ذا أبعاد استراتيجية إقليمية، وغلب عليه التداخل والتفاعل مع أزمات محددة بعينها، ولم تتمكن من القيام بأدوار رئيسة مستقلة فيها، ما يعزز الشكل الثانوي للتدخل في إدارة أزمات أكثر من كونه تدخلاً فاعلاً في سياق حل ما . كما طغى على هذا التدخل الطابع الاستثماري الاقتصادي غير المنتج سياسياً، في وقت تشهد المنطقة العربية تنافساً استثمارياً شديداً، بدءاً من الصين، وانتهاء بكل القوى الاقتصادية الاستثمارية التقليدية في المنطقة .
إن التسلل السياسي التركي إلى المنطقة العربية من بوابة الشعارات الجذابة شعبياً، وبخاصة الجانب ldquo;الإسرائيليrdquo; في المنطقة، يتناقض شكلاً ومضموناً مع التركيبة السياسية التركية داخلياً وخارجياً . فبداية أدّت دور الوسيط بين سوريا وrdquo;إسرائيلrdquo; (2006) في مفاوضات ميتة سياسياً، ومن ثم دخلت هذا المضمار سِباحة ببعد إعلامي، عبر حادثة سفينة المعونة إلى غزة، وصولاً إلى التدخل في الحراك العربي بدءاً من تونس مروراً بليبياً وسوريا وليس انتهاءً بمصر، وفي مجملها لم تجد مدخلاً صحيحاً لترتيب بيئة الزعامة القابلة للحياة . وفي المقلب الإقليمي الآخر، تدخلها في الملف النووي الإيراني مع الضلع البرازيلي الآخر، الذي توج أيضاً بخيبة أمل غير قابلة للتخصيب السياسي .
لقد انطلقت بمعادلة ldquo;صفر خصومةrdquo; مع دول الجوار، تيمناً بالتجربة السويسرية، لكن سرعان ما اصطدمت بكم من الأسفار العدائية مع طهران وتل أبيب ودمشق، فضلاً عن التنافس الصامت مع الرياض، فهل تشكل السياسة التركية الحالية المدخل الملائم لطموحات الزعامة الإقليمية؟ في الواقع ثمة فراغ عربي مخيف يسمح للقريب والبعيد كما القوي والضعيف أن يتجاسر ويحلم بملء الفراغ السياسي والأمني والاقتصادي القائم في المنطقة العربية، لكن ثمة مؤشرات في المقابل، هي أن هذا الواقع من الممكن ألا يستمر طويلاً، في ظل إمكانية عودة مصر إلى موقعها الطبيعي لأداء أدوار عربية وازنة، بعد طول غياب، وهو أمر مطلوب ومرغوب فيه مصرياً وعربياً وبخاصة شعبياً . فهل تفعلها مصر؟ لم يكن أحد يتوقع أن يسمع من مركز القرار المصري، أن اتفاقية كامب ديفيد ليست مقدسة .
التعليقات