خلف الحبتور

منذ وفاة ياسر عرفات, افتقر الفلسطينيون إلى قائد قوي يتمتع بسلطة التحدث باسمهم, وقد اعتمد خلفه محمود عباس نهجاً مختلفاً بالكامل في التعاطي مع مسألة الدولة انطلاقاً من اعتقاده بأن موقف عرفات الصدامي قد فشل وبأن طريق السلام يمر عبر واشنطن. ولهذه الغاية, لم يكف عن انتهاج أسلوب توفيقي, وأبدى استعداداً للتنازل حتى عن بعض المطالب الأساسية لشعبه, وكان يتوخى دائماً في تصريحاته الابتعاد عن تأجيج المشاعر وشحن النفوس, وفي حين وجد فيه الإسرائيليون وحلفاؤهم الأميركيون انه رجل جيد macr; وربما أيضاً خصماً ضعيفاً macr; توقع الفلسطينيون الكثير منه.
يوم الجمعة الماضي, كان الرئيس عباس رجلاً مختلفاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لم يُغلِّف طلبه الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعبارات ديبلوماسية. تحدث بهدوء وصراحة عن تأثيرات الاحتلال التي تثقل كاهل الفلسطينيين, والحصار غير القانوني الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة, وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم. وأصر على وجوب أن تستند الدولة الفلسطينية إلى حدود عام 1967 على أن تكون القدس عاصمة لها, وشدد على أنه حريص على الجلوس من جديد إلى طاولة المفاوضات, لكنه لن يفعل ذلك ما دامت إسرائيل تواصل سياسة التوسع الاستيطاني.
لقد تلا على مسامع العالم كيف تحطمت آمال الفلسطينيين وأحلامهم على صخرة الوعود الجوفاء طوال عقود من الزمن, مذكراً بالنداء الذي أطلقه عرفات أمام الجمعية العامة عام 1974 quot;لا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يديquot;. كانت الصرخة الأساسية في رسالة الزعيم الفلسطيني quot;كفى, كفى, كفىquot;. وللمرة الأولى منذ عقود, أصغى العالم جيداً, ولقيت كلمة عباس في الجمعية العامة ترحيباً شديداً من الحاضرين الذين صفقوا له مطولاً.
بين ليلة وضحاها, تحول محمود عباس إلى رجل دولة ذات ثقل كبير. وهنا لا بد من تحيته على شجاعته في تحدي quot;أوامرquot; الرئيس الأميركي بعدم رفع المسألة إلى الأمم المتحدة تحت طائلة إلحاق الضرر بعملية السلام. وإصراره على سلوك الطريق السريع نحو طرح طلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة على التصويت في مجلس الأمن في وجه التهديدات المشينة من حكومة نتانياهو والبيت الأبيض والكونغرس الأميركي لهو إثبات على مدى جديته هذه المرة.
تلويح تل أبيب بحجب أموال الضرائب عن الفلسطينيين في حال المضي قدماً في رفع الطلب إلى الأمم المتحدة وكلام وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الذي حذر فيه من quot;تداعيات قاسيةquot; لم يُحدد ماهيتها خير دليل على إفلاس إسرائيل المعنوي في حين أن منظمة التحرير الفلسطينية ألقت سلاحها منذ وقت طويل وسلكت طريق الشرعية الدولية.
ينظر الكونغرس في قطع المساعدات الأميركية عن الفلسطينيين ومعاقبة quot;وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيينquot; (الأونروا) والأمم المتحدة بوقف التمويل الأميركي, ويقول الرئيس أوباما إن بلاده ستستخدم الفيتو في مجلس الأمن لإسقاط طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية. إنه لتصرف معيب من دولة كانت منارة للعدالة والديمقراطية أن يعمد ديبلوماسيوها خلف الكواليس إلى لي أذرع الدول الأعضاء الأضعف ديبلوماسياً واقتصادياً في مجلس الأمن لرفض الطلب الفلسطيني, بحسب ما كشفته اخيرا حنان عشراوي, المفاوِضة السابقة باسم السلطة الفلسطينية. يذكر هذا السلوك بأساليب عصابات المافيا القديمة في شيكاغو عندما كان قادة تلك العصابات يمارسون الترهيب على الشهود الذين سيدلون بإفادات ضدهم كي لا يمثلوا أمام المحكمة, وكانوا يدفعون رشاوى لأعضاء هيئة المحلفين.
كنت أعتقد أن الرئيس أوباما رجل عادل ومتلهف لصنع السلام, ولذلك صُدِمت وخاب ظني عندما سمعت كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة, والتي تتعارض مع الرسالة التي وجهها عبر المنبر نفسه العام الماضي. فكما لفت معلقون كثر, بدا هذه المرة محامياً عن إسرائيل أكثر منه وسيطا صادقا, فلم يأتِ على ذكر حدود 1967 أو المستوطنات الإسرائيلية التي قال عنها سابقاً إنها تقف عائقاً أمام السلام.
إنها لمن سخرية القدر المؤسفة أنه قد أثنى على المصريين والسوريين واليمنيين والليبيين لأنهم يسعون الى الحصول على حريتهم بينما يعمل على إحباط المساعي التي يقوم بها الفلسطينيون لنيل حريتهم. لم يقل شيئاً عن المعاناة الفلسطينية مفضِّلاً التركيز على التزام أمريكا quot;الثابتquot; بأمن إسرائيل. قال quot;لنكن صادقين مع أنفسنا: إسرائيل محاطة بجيران خاضوا حروباً متكررة ضدهاquot;, متجاهلاً الاجتياحات الإسرائيلية للبنان والهجمات على غزة.
تحدث عن المواطنين الإسرائيليين الذين تقتلهم الصواريخ, وغض النظر عن آلاف المدنيين الذين يلقون مصرعهم على أيدي الجيش الإسرائيلي. واستذكر الستة ملايين يهودي الذين قُتِلوا خلال المحرقة التي تلقي بظلال مظلمة على التاريخ الأوروبي, وليس للعرب أي علاقة بها, فقد كانوا يعيشون بسلام مع اليهود قبل النكبة عام 1948. أتساءل إذا كان أوباما نفسه يصدق ما يقوله مع العلم بأنه كان مدافعاً قوياً عن قيام دولة فلسطينية بالاستناد إلى حدود 1967. يقول الساخرون إنه وضع مبادئه جانباً لحشد أصوات اليهود والإنجيليين في الانتخابات الرئاسية المقبلة, وربما كانوا محقين في ذلك.
خلاصة هذا كله بالنسبة إلينا نحن العرب هي أنه لا يمكننا, ولا يجدر بنا, أن نترك الرئيس الفلسطيني يواجه الولايات المتحدة وإسرائيل منفرداً. لقد تركنا الفلسطينيين يناضلون وحدهم وقتاً طويلاً جداً, والآن فيما نشهد على المجتمع الدولي يتعاطف بقوة مع قضيتهم, يجب ألا نكتفي بتبنيها, بل علينا أن نبدي استعداداً للوقوف في خط المواجهة دفاعاً عنها. يجب أن يوحد قادتنا صفوفهم في مواجهة أي دولة تحول دون بلوغ الفلسطينيين هدفهم بإقامة الدولة تماماً كما يتحد الإسرائيليون والأميركيون والمتملِّقون إليهم لمنع الفلسطينيين من نيل حقوقهم. وبما أن الجامعة العربية لا تضطلع بدورها كما يجب لأن البلد الذي يستضيف مقرها على أراضيه يعاني من عدم الاستقرار ويتخبط عدد كبير من أعضائها في مشاكل داخلية خطيرة, أرتأي أن يتم نقل مقرها موقتاً إلى دولة تابعة لmacr; quot;مجلس التعاون الخليجيquot; مع تعيين شخصية خليجية مرموقة أميناً عاماً لها بحيث يكون قادراً على اتخاذ مواقف حاسمة من المسألة الفلسطينية ويؤخَذ كلامه على محمل الجد.
يجب أن نفتح قلوبنا وجيوبنا للسلطة الفلسطينية ونفرض عقوبات على أي دولة تعترض طريق الحق. هذا العام, أصبح للشعوب العربية صوت مسموع, وهذا ما يريدونه. لم يعد ممكناً تجاهل رغبات المواطنين في منطقتنا; حيث تقف شعوبنا قاطبة إلى جانب الفلسطينيين وعلى قادتنا أن يعكسوا إرادة شعوبهم.
قال ونستون تشرشل quot;يرى المتشائم الصعوبة في الفرصة, بينما المتفائل يرى الفرصة في الصعوبةquot;. من أجل الشعب الفلسطيني والاستقرار في منطقتنا, يجب علينا نحن كعرب أن نغتنم هذه الفرصة لنُظهر التزامنا بالعدالة ونستعيد كرامتنا على الساحة العالمية مهما كان الثمن. على أمتنا العربية التي كانت أبية فيما مضى أن تثبت وجودها في شكل حاسم ونهائي, وإلا ستتفتت وتصبح مجرد ذكرى من التاريخ. إنه الوقت المناسب لنصبح إخوة حقيقيين من جديد, ونرفع شعبنا الفلسطيني للخروج من بؤسه.
هيا أخبروني! من معي? هل أنتم معي? أم أن لا حياة لمن تنادي ولا جدوى من الصرخات التي يطلقها أمثالي ممن ما زالوا يتمسكون بشدة بمبادئنا العربية الأصيلة من صدق وشرف?