فهمي هويدي

حين استقلت تونس في عام 1956، وتولى السلطة فيها الحبيب بورقيبة، فإن الرجل قرر علمنة المجتمع ودخل في اشتباك مع الثقافة والتقاليد الإسلامية السائدة. فدعا إلى نزع حجاب المرأة والإفطار في شهر رمضان، وألغى تعدد الزوجات وعطلة الجمعة وصفى جامعة الزيتونة. ولم يكتف بذلك وإنما عمد إلى تصفية أقرانه والتخلص منهم واحدا تلو الآخر. ولم يكتف بلقب المجاهد الأكبر وإنما تحول إلى الزعيم الأوحد والمستبد الأعظم. وعلى دربه سار خليفته زين العابدين بن علي الذي انقلب عليه في عام 1987، فظل رافعا راية العلمانية ولم يتخل عن خصومته للثقافة الإسلامية، وتفوق عليه في استبداده حتى أطاحت به الثورة في العام الماضي.

قبل بورقيبة كان مصطفى كامل أتاتورك وصحبه قد فعلوها في تركيا. إذ باسم العلمانية أعلنت الحرب على الثقافة الإسلامية وقام العسكر بثلاثة انقلابات كرست تحكمهم في مقدرات تركيا، وفي الأول منها (عام 1961) تم شنق رئيس الوزراء عدنان مندريس ومعه وزيرا المالية والخارجية.

سواء كانت علمانية النظام مشهرة، كما في النموذجين السابقين، أو غير معلنة كما في حالة صدام حسين وحافظ الأسد وابنه بشار أو حسني مبارك، فالشاهد أنها لم ترتبط في خبرة العالم العربي بالديمقراطية. وفي الحالة التركية فإن النظام العلماني المهيمن لم يعرف ديمقراطية حقيقية إلا في ظل حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، الذي تولى السلطة في عام 2002.

رغم هذه الخلفية التي يدركها أي باحث مبتدئ، فإن بين مثقفينا من لا يزال يغمض عينيه ويتجاهل خبرة التاريخ، ويصر على أنه لا ديمقراطية بغير علمانية، بل ويذهب إلى أنه لا سبيل إلى إقامة مجتمع مدني إلا في ظل العلمانية. الأمر الذي يضعنا بإزاء موقف فكري يدعو إلى الرثاء. ذلك أن إخواننا هؤلاء يصرون على إقناعنا بأن العلمانية هي الممثل الشرعي الوحيد لكل الفصائل السياسية. في إيماء مبطن بأن العلمانيين هم أخيار العالم وكل من عداهم أشرار يتعين الخلاص منهم وإقصاؤهم.

أفهم أن العلمانية رؤية للعالم تعترف بالمحسوس ولها حساسيتها إزاء ما هو غيبي، فتضعفه عند البعض وتقصيه وتعاديه عند البعض الآخر. لذلك فهناك علمانية متصالحة مع الدين كما في إنجلترا (الملكة هي رئيس الكنيسة) وأخرى مخاصمة للدين كما في فرنسا. أفهم أيضا أن تلك الرؤية تحتمل تصالحا مع الديمقراطية في بعض الحالات وتحتمل نقيض ذلك تماما في حالات أخرى من قبيل ما سبق ذكره. والحاصل مع الديمقراطية يسري على مدنية المجتمع، التي قد تحترم قيمتها في بعض التطبيقات وقد تهدر ويطاح بها في تطبيقات أخرى. وهو ما نقوله أيضا عن القيم الإسلامية التي يمكن أن توظف لصالح المجتمع كما يمكن أن تستخدم في الانقلاب عليه. وتزعم أن الجهد ينبغي أن ينصرف إلى تحصين القيم وليس رفضها، لكي تظل طاقتها الإيجابية في خدمة المجتمع ولصالحه.

هذا المنطق يرفضه غلاة العلمانية الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم الوكلاء الحصريين للديمقراطية والمدنية. وقد ذكرت في مقام سابق أنهم يستنسخون بذلك مفهوم الفرقة الناجية الجامعة لفضائل التطهر السياسي، في اقتباس لفكرة الفرقة الناجية بين بعض غلاة المتدينين.

ما دعاني إلى العودة إلى مناقشة الفكرة أنني وقعت على مقالة عبرت عن ذلك الغلو العلماني، نشرتها جريدة الأهرام يوم الأربعاء الماضي (3/10) تحت عنوان هو: مدنية أي علمانية أي ديمقراطية. ولم يكن أسوأ ما في المقالة ما حفلت به من تدليس فكري يستهجنه العقل الرشيد، وإنما عمد صاحبها إلى التغليظ والتزوير في المعلومات أيضا. إذ بعد هتافه للعلمانية عمد إلى هجاء الموقف الإسلامي، فقرر أن laquo;المفكرين المسلمين جميعا يعتقدون أن سلطة الحاكم في الدنيا مستمدة من الله، وأنه بمثابة الأب للرعية التي لا وجود لها إلا بوجودهraquo;. وقد بين ذلك الحكم استنادا إلى نص عن الفارابي (الفيلسوف المسلم الذي عاش في القرن التاسع الميلادي) ذكر فيه ما نصه laquo;إن السبب الأول (لله) نسبته إلى سائر الموجودات كنسبه ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائهاraquo;. وأي قارئ لكلام الفارابي يكتشف أن الكاتب لم يفهم مقصوده وتلاعب في استنتاجه. فالرجل يعتبر أن الفيلسوف هو ملك المدينة الفاضلة وهو أدرى من غيره بالنظام الذي وضعه خالق العالم، وأنه يملك الحكمة التي تمكنه من أن يضع شرائع المدينة الفاضلة، كي تحاكي نظام العالم المثالي الذي وضعه الرب الصانع. وذلك معنى أبعد ما يكون عن ذلك الذي خلص إليه صاحبنا، حين تصور أن ملك المدينة الفاضلة هو حاكمها، في حين أن الفارابي كان يتحدث عن الفيلسوف وعن النموذج الأعلى المتمثل في المدينة الفاضلة.

إن الغلو لا يعمي البصر فقط لكنه يفسد البصيرة أيضا