أكرم البني
الحديث عن الأقليات في سوريا، يعني هذه الأيام الحديث عن مخاوفها من الثورة، إن لجهة الفوضى المحتملة والمرافقة عادة لعملية التغيير ولتراجع دور الدولة أو لجهة خطر وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، والخشية من مظاهر التضييق والتنميط المرافقة لهذا النوع من الحكومات، التي تحاول عادة فرض أسلوب حياتها وثقافتها على المجتمع، ما يهدد هوية هذه الأقليات وحقوقها وطرق عيشها!
تشكل الأقليات الإثنية والدينية في سوريا نسبة تصل لنحو 40 في المائة من عدد السكان إلى جانب العرب السنة، وتتألف من شتى مذاهب المسلمين غير السنة والمسيحيين وقوميات تتباين ثقافاتها مع العرب، كالأكراد والشركس والتركمان والأرمن والآشوريين، وقد شاركت جميعها في التحرير والاستقلال وبناء دولة وطنية جامعة، وأيضا في التعرض لمختلف أصناف القمع والاضطهاد من النظام الحاكم بغية تطويعها وتسخيرها لخدمة مصالحه ولتوسيع قاعدته الاجتماعية، وإذ لزمت في غالبيتها الصمت والخضوع لإملاءات السلطة خلال عقود طويلة تحت هواجس شتى، لكن تاريخها شهد حركات ونشاطات مناهضة لسياسات الاستبداد من خلال أحزاب وشخصيات معارضة عربية وكردية ومن شتى المذاهب الدينية عانت من السجون والإفقار والمنافي. والحال، لم تكن في سوريا مشكلة أقليات وأكثرية، لولا تواتر حالات التمييز القومي أو الطائفي من قبل السلطة لضمان الولاء على حساب الرابطة الوطنية والسياسية ومعايير الكفاءة والنزاهة، ولولا استجرار وتشجيع ردود فعل وولاءات من الطبيعة نفسها! فقد لعب السوريون، من مختلف المكونات القومية والدينية، دورا متكاملا في بناء دولتهم وتاريخها الحديث، وشكلت عندهم قيم المواطنة والمساواة قاسما مشتركا كما غلبت انتماءاتهم إلى الأحزاب الحداثية على أي انتماء، وطبعا من حسن الحظ أن وقفت مشكلة الأقليات والأكثرية ولوقت طويل عند حدود الاستئثار بتوزيع المناصب والامتيازات، ولم تتحول إلى تعبئة سياسية تخوض الصراعات وفق مشاريع فئوية خاصة وتاليا إلى تخندقات متخلفة خطرة، مشحونة بالإقصاء المتبادل وبرغبة عمياء في إضعاف الآخر والنيل من قوته وحقوقه على حساب الهم الوطني العريض!
هناك أسباب موضوعية وبنيوية في الخصوصية السورية لغلبة مسار الانصهار الوطني في مواجهة نوازع التفرقة والتمييز، فالمجتمع لا يملك رصيدا من الأحقاد والمواجهات الحادة بين مكوناته يستحق التوظيف والاستثمار، ثم إن درجة الوعي العام للشعب السوري والتفافه المزمن حول مهام وطنية وقومية عريضة تركت أثارا إيجابية على تضامنه ووحدته واندماجه، وأضعفت تاليا البنى العصبوية التقليدية وإمكانية تبلورها في مشروع سياسي خاص، كما ساعدت في تمكين بناء دولة وطنية نأت عن المحاصة السياسية الطائفية، هذا إذا أخذنا في الاعتبار أهمية التداخل الجغرافي بين مكونات المجتمع المختلفة وندرة وجود معازل أو أماكن نقية تحسب على أقلية أو أكثرية، فإن الأكثرية، حالها كحال الأقليات، ليست موحدة ثقافيا أو سياسيا، فما يجمعها هو الرابط الديني وإيمانها العفوي التقليدي، لكن تفرقها اجتهادات متنوعة في فهم علاقة الدين بالحياة، كما انتماءاتها المختلفة، إلى أطر سياسية، قومية أو ليبرالية أو شيوعية أو غيرها، عدا عن الدائرين في فلك السلطة، من المحازبين والمستفيدين، ونضيف أن الانتفاضة الشعبية التي تنتمي كتلتها الرئيسة إلى الإسلام بصفته دين الأغلبية، تنطوي على تنوع وتعددية لافتين، فإلى جانب العرب والأكراد، هناك مشاركة متفاوتة تبعا لكل منطقة من مختلف الطوائف والمذاهب، والأهم أنه لم تسمع أصوات وازنة تدعو إلى حكم الشريعة ودولة الخلافة، بل لا تزال هتافات المحتجين في أكثريتها تميل إلى الشعارات المناهضة للطائفية وإعلاء قيم المواطنة وأسس العيش المشترك!
ولكن، ثمة حيثيات ونواقص ذاتية لتمكين المسار الوطني تزداد حضورا وإلحاحا طردا مع هذا التوغل المريع في القمع والتنكيل ضد المحتجين، وإصرار أهل الحكم على إنكار مطالب الناس وإظهارهم كأدوات تآمرية وطائفية، منها أولوية الحفاظ على أخلاق الثورة وروحها الوطنية والتحسب جيدا من دفع الاصطفافات تحت وطأة العنف المفرط إلى مكان خاطئ يفتح الباب أمام صراعات فئوية ممزقة ومدمرة، ومنها ضرورة التمسك بدور الدولة ومؤسساتها وأولوية الاحتكام إلى القضاء والقانون، فتغيير السلطة يجب أن لا يقود إلى تفكيك الدولة أو الإطاحة بدور مؤسساتها كوعاء لإدارة المصالح المتنوعة للمجتمع، ومنها الارتقاء بدور المعارضة السياسية ووحدتها وقدرتها على تمثيل مختلف القوى والفعاليات بعيدا عن المحاصصة والحسابات الضيقة، وبالنتيجة تقديم بديل مقنع يحظى بثقة الجميع، والأهم تشجيع المبادرات لتشكيل لجان أهلية مناهضة للطائفية والتمييز كما شهدنا في بعض المناطق والأحياء المختلطة، تعزز أسس التعايش والتسامح والتكافل وتساهم في حماية أرواح الجميع وممتلكاتهم ومحاصرة نوازع النزوح على أسس طائفية أو مذهبية! وإذ نعترف أن مسألة الأقليات ومخاوفها هي شماعة يستخدمها المتمسكون بمصالحهم ليبرروا صمتهم ويستخدمها المجتمع الدولي ليبرر سلبيته ويستخدمها النظام ليتوغل أكثر في القمع والتنكيل، نعترف أيضا بأن مخاوف بعض الأقليات من الفوضى والتطرف الإسلامي هي مخاوف حقيقية، والقصد أنه لا يمكننا لوم هذه الجماعات على خوفها وإحجامها، أو معالجة الخوف بالإدانات والاتهامات، بل بالإقدام الشجاع للحد من التجاوزات والخروقات وروح الثأر والانتقام التي تنشأ في ظل غياب دور الدولة والقانون، ولمحاصرة التطرف والانحرافات الطفولية الحالمة بانتصار أناني وتقاسم المغانم. وهنا ينبغي الاعتراف بأن المتخوفين من التغيير ليسوا فقط الأقليات العرقية والدينية، بل قطاعات عريضة من أبناء الطبقة الوسطى وقطاع من المثقفين والكتاب والمبدعين، لكن هذا التخوف المشروع يجب ألا يقود نحو المزيد من السلبية بل بتحويله إلى حافز إيجابي يشجع هؤلاء على مزيد من المشاركة في الشأن العام، على قاعدة أن التغيير يفتح الطريق لمقارعة الآخر المختلف في مناخات الحرية وعبر المؤسسات السياسية والدستورية، فالسياسة صراع وصيرورة وآفاق، ودون نجاح الثورة لا يمكن فتح صيرورة وآفاق تنهض بسوريا سياسيا نحو الوطن التعددي والديمقراطي.
- آخر تحديث :
التعليقات