أحمد عبد المعطي حجازي
علي جماعة الإخوان المسلمين بعد أكثر من ثمانين عاما علي قيامها ـ وبعد أن مرت بالتجارب التي مرت بها حتي الآن حلوها ومرها أن تكون واضحةrlm;,rlm; وأن تظهر أمام المصريين بوجهها الحقيقيrlm;,rlm; وتكشف عن أهدافها الحقيقيةrlm;.rlm; وعلي القوي والأحزاب المدنية المصرية أن تري جماعة الإخوان علي حقيقتها وتواجهها بما تراه دون لف أو دورانrlm;.rlm;
لقد نشأت جماعة الإخوان في ظروف مختلطة متغيرة لم تكن تستطيع فيها أن تكشف عن طبيعتها بصراحة, وأن تواجه المصريين بأهدافها, إذ كان المصريون في ذلك الوقت, العشرينيات الأخيرة من القرن الماضي, لا يزالون يعيشون في مناخ ثورتهم الوطنية الكبري, ثورة 1919 التي وأرغمت الانجليز علي إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر, وأرغمت (الملك) فؤاد علي اعلان الدستور ودعوة البرلمان للانعقاد.
لكن القوي الثورية المصرية لم تكن وحدها في الميدان, وإنما كانت تقف في مواجهتها القوي المعادية المتمثلة من ناحية في جيش الاحتلال, ومن ناحية أخري في القصر الملكي وحاشيته المنتفعة به من بقايا الترك والشركس, وكبار الملاك, ورجال الأزهر الذين خرج منهم الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان.
ولقد نشأ البنا نشأة ريفية وتربي تربية تقليدية محافظة فرضت عليه أن ينظر لكل ما حققته الثورة المصرية نظرة سلبية تحفظ في التعبير عنها, ولجأ للتستر والمراوغة, ولون مواقفه بألوان الظروف المتغيرة التي كانت تسمح له أحيانا بأن يتقدم, وكانت تفرض عليه أحيانا أن يتقهقر. أن يقف مرة في النور, ويلوذ مرة أخري بأستار الظلام.
في عشرينيات القرن الماضي كان المصريون يستعيدون وعيهم بأنفسهم كأمة عريقة لها تاريخها الحافل وحضارتها الباذخة, ووحدتها الصلبة التي صمدت للزمن ولم تتأثر كثيرا بتعدد الديانات واختلاف العقائد والمذاهب. فالدين لله, والوطن للجميع. وقد ارتبط هذا الوعي الوطني المستعاد بقيام الدولة الوطنية, التي استعادت بها مصر استقلالها, وخرجت من تبعيتها الطويلة الموروثة لدول الخلافة الاسلامية المتتابعة وآخرها دولة آل عثمان التي قضي عليها مصطفي كمال أتاتورك, فطمع فيها الملك فؤاد, وسعي ومعه القوي الرجعية المصرية ليفوز بها, ويتقدم تحت رايتها ليستعيد سلطانه المطلق الذي حاصرته الثورة وينقلب علي الدستور ويهدم البرلمان علي رأس سعد زغلول. وفي إطار العمل علي نقل الخلافة إلي مصر وتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين ظهرت جماعة الإخوان المسلمين التي رأي منشئها أن دولة الخلافة لم تسقط في تركيا بيد أتاتورك وحده, وإنما سقطت بتدبير من الدول الغربية, وهي لن تستعاد بوضع الملك فؤاد في المكان الذي خلا بخلع السلطان عبد المجيد, وإنما تستعاد الخلافة باستعادة النظم والمؤسسات والشرائع الاسلامية التي هجرها المصريون والمسلمون عامة في القرنين الأخيرين, وأحلوا محلها ما اقتبسوه ونقلوه من النظم والمؤسسات والأفكار الغربية الحديثة.
هكذا كان ظهور الإخوان ثورة, لكنه ثورة بالعكس, أو عودة للعصور الوسطي, أو ثورة مضادة!
لم يكتف حسن البنا وجماعته بالدعوة لاستعادة الخلافة التي سقطت في تركيا كما كان يفعل علماء الدين من أمثال الشيخ رشيد رضا, والشيخ الخضر حسين, والشيخ محمد شاكر, فضلا عن السياسيين الرجعيين الملتفين حول الملك وإنما دعا لاستعادة الماضي كله, والخروج من الحاضر كله, رافعا شعاراته العنيفة التي خلط فيها الدين بالسياسة, وجعلها ردا علي شعارات الثورة الوطنية, وعلي منجزاتها كلها, إذا كان الثوار المصريون يجاهدون في سبيل الوطن, فالإخوان يجاهدون في سبيل الله, وإذا كان الثوار قد التفوا حول سعد زغلول وجعلوه زعيما لهم, فالرسول زعيم الإخوان, وإذا كان دستور 1923 قد ضمن للمصريين حقوقهم, وفاز بثقتهم, فالقرآن هو دستور الإخوان.
ومع أن المناخ في ذلك الوقت كان وطنيا حماسيا, كما أشرت من قبل فقد وجدت هذه الشعارات في بعض الأوساط من يصغي لها ويتأثر بها, خاصة حين اختلف الزعماء الوطنيون, وتصارعت الأحزاب السياسية, ومال بعضها للتحالف مع القصر ومهادنة الانجليز, إضافة لما أحدثه إلغاء الخلافة من شعور بالفقدان في بعض الأوساط التي كانت تري فيها صورة من صور الابوة يلجأ إليها المسلمون في أوقات الشدة, وبين هذه القوي المتصارعة والشعارات المتناقضة كانت جماعة الاخوان تتحرك, فتنظر لهذا الفريق بوجه, وللفريق الآخر بوجه آخر.
كان حسن البنا يتحدث عن حاجة المصريين لتربية وطنية سليمة, وربما تحمس للاستقلال الوطني, لكن حديثه هذا كان حلاوة يعطيها من طرف لسانه يفسح بها الطريق للإعلان عن عدائه للثورة والدستور, والأحزاب السياسية, والوطنية المصرية, أو القومية الموضعية, كما كان يسميها معتبرا إياها تدبيرا استعماريا قام به خصوم الإسلام ليمزقوا وحدة المسلمين بالتجزئة والتقسيم, وإثارة القومية الموضعية بين الاقطار الإسلامية ـ أي الشعور بالانتماء والولاء لبلد بالذات, وبالحزبية بين أفراد الأمة الواحدة ـ وهي هنا الأمة الإسلامية لا الأمة المصرية, لأن الرابطة الدينية في نظر حسن البنا هي التي تشكل الأمة, وليست الرابطة الوطنية التي يشبهها بالعصبية الجاهلية, ويري أنها تنال من شعور المسلمين بوحدتهم, وتقطع صلتهم بالإسلام, (ويرجعون كفارا يضرب بعضهم وجوه بعض)! فإذا كانت الأمة هي أمة الإسلام, والوطن هو كل البلاد التي يعيش فيها المسلمون, فباستطاعتنا أن نستنتج الباقي. الأقليات الدينية في البلاد الإسلامية, أمم أخري, أو أجانب, أو ذميون يعيشون في حماية المسلمين أو في ذمتهم, والديمقراطية حرام, لأنها تجعل الشعب حاكما لنفسه, والحكم في الإسلام لله, والمرأة عورة حتي لو خرجت للصلاة, والموسيقي إثارة والتصوير وثنية, والقوانين الوضعية كفر, والمنطق زندقة.. باختصار كل ما حققته لنا النهضة الحديثة هو في رأي الإخوان خروج علي الإسلام, فإما العودة إليه أو مواصلة الخروج, إما الخلافة الإسلامية, وإما الدولة المدنية, إما أهل الحل والعقد, وإما الديمقراطية, تطبيق الشريعة, أو القوانين الوضعية, حبس النساء أو الاختلاط والانحلال.
والسؤال الأول الذي آن لنا أن نطرحه: هل راجع الإخوان في ضوء تجاربهم الماضية هذه الآراء؟ وهل صححوا ما وجدوه بعيدا عن الواقع أو بعيدا عن الصواب؟ والجواب بكل أسف: لا, فهم مازالوا يخلطون خلطا فاحشا بين الدين والسياسة. ومازالوا يعتبرون الخلافة مشروعهم الأول, الذي لن يتحقق إلا في الخيال!
والسؤال الثاني والأخير: هل نعتبر نجاحهم في الانتخابات الأخيرة امتحانا انحاز فيه المصريون للإخوان, وتخلوا عن النهضة؟ والاجابة أيضا: لا. لأن النهضة التي انقلب عليها ضباط يوليو لم تكن مرشحة في هذه الانتخابات, ولم تكن حاضرة. الإخوان لم يجدوا من ينافسونه إلا السلفيين. الماضي يناطح الماضي, والحاضر غائب للأسف!.
التعليقات