هآرتس


في الوقت الذي يعتمل فيه ميدان التحرير مرة اخرى، ويتجمع متظاهروه كل مجموعة حسب انتمائها السياسي حول منصة مزينة بالشعارات ومزودة بالميكروفونات؛ وعندما تحتدم الحملة الانتخابية للرئيس يتبين أنه في داخل الانشقاق السياسي بين المتدينين والعلمانيين، بين الاخوان المسلمين والليبراليين، يوجد مع ذلك قاسم مشترك واحد غير التطلع الى الديمقراطية: الصراع ضد التطبيع مع اسرائيل.
يوم الأربعاء الماضي ارتكب مفتي مصر، علي جمعة جريمة لا تغتفر. فقد زار الحرم في القدس، صلى في المسجد الأقصى وتجول في كنيسة القيامة. وكانت هذه زيارة 'خاصة' وغير رسمية، لم تكن بحاجة الى أي تأشيرة دخول إسرائيلية'. وعلى حد قول المفتي، فقد نظم هذه الزيارة البلاط الملكي الأردني الذي أرفق المفتي بالأمير غازي بن محمد، مستشار الملك لشؤون المقدسات. وهو الذي أجرى التنسيقات اللازمة مع السلطة الفلسطينية. وكانت هذه زيارة خاطفة مثل زيارة الهزة الارضية التي ضربت موجات صداها بقوة شديدة في القاهرة بالذات.
هذه هي المرة الاولى التي يزور فيها مفتي مصر القدس، فيخرق بذلك احدى المسلمات التي تقول ان ممثلي الحكومة وحدهم مخولون بزيارة اسرائيل بحكم مناصبهم وكجزء من الحد الادنى الضروري لتطبيق اتفاقات كامب ديفيد. كل ما تبقى، سواء أكان هذا من الكتاب، الصحافيين، السياسيين او رجال الدين، ملزمون بان يديروا أرجلهم عن اسرائيل بشكل عام وعن القدس بشكل خاص وذلك لان كل زيارة كهذه معناها تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال. في البداية اعتقد المفتي بان تفسيراته القصيرة، التي نقلها عبر حسابه على التويتر، سترضي العاملين ضد التطبيع. ولكنه لم يقدر بما فيه الكفاية حجم الخطيئة.
محرر صحيفة 'الشروق'، وائل قنديل، النشيط جدا في دوائر الاحتجاج ويعتبر من مؤسسي حركة الاصلاح التي يقف على رأسها محمد البرادعي، لم يوفر سهامه السامة حين شرح في مقال افتتاحي بان 'مفتي مصر ما كان يتجرأ على أن يتصرف هكذا عندما كانت العلاقات الدافئة بين نظام مبارك وبين العدو الصهيوني في ذروتها... محاولة المفتي الشرح بان هذه زيارة شخصية لا تقنع أحدا.
وثمة حاجة الى فحص هذه الزيارة بكل معانيها كحذر شديد. من جهة يسعى حكام مصر، بمعنى الجيش، الى استغلال الفرصة الذي ينشغل فيها الشعب المصري بازمات اقتصادية وامنية ويقلق من القوة المتصاعدة للاسلام السياسي، والتي يعظمها الحكام بكفاءة شديدة ـ كي يعيد فحص حدود التطبيع. من جهة اخرى، هذه رسالة الى الادارة الامريكية والى الحكومة الاسرائيلية في أنهما سيواصلان تلقي ما تلقياه من نظام مبارك'.
قنديل لا يتصور على الاطلاق بان زيارة المفتي كان يمكن لها أن تعقد دون علم المجلس العسكري الاعلى ومصادقته، بالضبط مثلما تلقى الحجاج الاقباط الاذن بالوصول الى القدس قبل نحو اسبوعين.
بعد يومين من نشر مقال قنديل، صعد حساب فيس بوك جديد تحت عنوان 'مليار توقيع لتنحية المفتي'. وعلى هذه الموجة قفز أيضا المهندس ابو العلاء ماضي، زعيم حزب الوسط الذي انشق في التسعينيات عن الاخوان المسلمين وتلقى الاذن بالعمل كحزب في أعقاب الثورة فقط.
'لا أدري كيف يمكن أن نغفر للمفتي مثل هذه الخطوة. فهو يجب أن يعاقب'، صرح ماضي. ومثله أيضا حمدان السباعي، رئيس حزب الكرامة ذي الايديولوجية الناصرية العلمانية، الذي يتنافس الان على الرئاسة. وقد صرح السباعي بان 'خرق القرار الشعبي ضد التطبيع مع اسرائيل ليس قرارا شخصيا لصاحب المنصب. فالمفتي لا يمثل نفسه فقط'. وأخيرا، فان اتحاد الكتاب ايضا قرر اعادة فحص امكانية سحب عضوية المفتي في صفوفه، لانه خرق احد انظمته، الذي يحظر على اعضائه زيارة اسرائيل.
التوبيخ الشديد من جانب الاخوان المسلمين للمفتي والانتقاد الشديد من جانب زملائه في مركز بحوث الازهر، المؤسسة الدينية الاهم في مصر وفي الشرق الاوسط غابت في جملة انتقاد السياسيين العلمانيين الذين نجحوا معا دون صعوبة في أن يوضحوا ليس فقط للمجلس العسكري الاعلى بل وايضا لكل من التزم تبؤ منصب رسمي في النظام الجديد بان التطبيع هو خط احمر لا يجب اجتيازه.
في الظروف التي تعيشها مصر الان، حيث لا تمتنع الحركات السياسية عن الصدام بالجيش، وعندما يكون ميدان التحرير لا يزال يغلي كالبركان، من شأن المفتي ان يفقد منصبه اذا لم يقع حدث مثير آخر. ستكون هذه خسارة، وليس لانه تجرأ على أن يزور القدس واستجاب بذلك الى دعوة محمود عباس لكل المسلمين في العالم للمجيء ورؤية كيف يحاول الاحتلال الاسرائيلي تهويد القدس؛ وللمفتي كانت عدة فتاوى غريبة، على أقل تقدير، ولكن احداها جديرة بالتأكيد بتقدير شديد: علينا أن ندع هذه العادة فورا وان نكافحها بكل القوة بعد أن ثبت ما هو حجم الضرر الكبير الذي تلحقه بالمرأة من ناحية جسدية ونفسية. علينا أن ننشغل في مواضيع أهم بدلا من هذه المشكلة التي ألحق ايضا ضررا كبيرا بالاسلام والمسلمين' هكذا هاجم المفتي علي جمعة عادة الختان للنساء. ولكن مقاتلي التطبيع، الذين جعلوا أنفسهم أولياء اكبر من المفتي أو من رئيس السلطة الفلسطينية، فان هذا لا يهم على الاطلاق.