laquo;دير شبيجلraquo; وصفت إصلاحاته بـ laquo;أغاني الثمانينياتraquo;!
باريس
قبل الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية يوم أول من أمس الأحد لم يكن الفرنسيون وحدهم المترقبين لما ستسفر عنه الانتخابات، بل كانت أوروبا والعالم بأسره ينظران إلى هذه الانتخابات الفرنسية بنوع من الترقب، إذ من المعروف عن فرانسوا هولاند الذي أُعلن فوزه يوم الأحد مواقفه المعارضة لخطط التقشف الصارمة التي تدعو إليها المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، ولاسيما أنه بنى حملته الانتخابية على انتقاد التركيز الألماني المفرط على الانضباط المالي دون إيلاء الاهتمام الكافي لمسألة النمو وتأمين الوظائف.
فسياسة التقشف التي اتفقت عليها الدول الأوروبية بقيادة ألمانيا، وإن كانت قد ساهمت فعلاً في تهدئة الأسواق المالية ودعمت quot;اليوروquot; بعد تعثر الدول المدينة واحدة تلو الأخرى، إلا أنها كانت أيضاً باهظة التكلفة من الناحيتين السياسية والاجتماعية بعدما خرج المحتجون إلى المدن الأوروبية منددين بالتقشف وتدهور أوضاعهم المعيشية، ولذا يتوقع البعض في ظل الاختلاف بين الرئيس الفائز في فرنسا والمستشارة ميركل في ألمانيا نشوب معركة ضارية بين الطرفين.
ولكنني شخصيّاً أتوقع شيئاً مختلفاً هو أشبه بإعادة ضبط للعلاقة وإدخال تعديلات ضرورية عليها، وحسب المنطق الذي يتوقع المواجهة بين فرنسا الجديدة في ظل الحكم الاشتراكي وألمانيا ميركل المحافظة اقتصاديّاً، هناك ما يكفي من الدلائل والمعطيات التي تذهب في اتجاه احتمال تعميق الانقسام الأوروبي بين أنصار الإنقاذ الاقتصادي الذين يريدون تدخل البنك المركزي الأوروبي ومن ورائه ألمانيا لتحفيز النمو وإنقاذ أوروبا اللاتينية، وبين دعاة الانضباط المالي بقيادة ألمانيا المصرة على فرض سياسة صارمة للتقشف حتى تصلح دول نادي المتوسط أوضاعها وتعيد التوازن لمالياتها المختلة.
ويشكل صعود هولاند إلى الرئاسة النموذج الملموس الأول لبداية تمرد شعبي في أوروبا ضد القوى السياسية المنادية بمقولة الألم قبل المكسب، ووفقاً لهذا الرأي أيضاً ستظل ميركل محصورة في برلين بعد أن يضعف موقفها أوروبيّاً، ولكنها، بسبب عنادها، لن تفرط في فلس واحد، وستتمسك بسياسة التقشف، الأمر الذي سيدخل أوروبا في حالة من الشلل يصاحبها اضطراب الأسواق ومرحلة جديدة من الخطر المحدق باليورو.
إلا أن الحقيقة تقول إنه على رغم فوز هولاند، بمواقفه المعروفة من التقشف، في الرئاسيات الفرنسية وتحديه لبعض المسلَّمات الألمانية، فإن التوتر لن يرقى أبداً إلى درجة نشوب صراع مرير كما يرى البعض، ولن ينتج عنه شلل في السياسات الأوروبية. وبدلاً من ذلك ستشهد أوروبا على الأرجح إعادة ضبط التوازن في سياساتها بعد مرحلة ممتدة من حكم قادة وسط اليمين،
ولكن ما الذي يبرر هذا التوافق الذي ستنتهي إليه حتماً السياسة الأوروبية؟ الجواب هو أن الأسواق لن تمنح فرصة الجموح لهولاند فيما هذا الأخير لن يسمح لميركل بالتطرف المالي. وفي النهاية سيبدو الأمر أشبه بما يطلق عليه الفرنسيون التعايش أو المساكنة السياسية، وما يسميه الألمان بالتحالف الكبير، والفارق أن التوازن سيكون هذه المرة على الصعيد الأوروبي. فهولاند سيقود بلداً عانى مؤخراً من خسارة مرتبته الائتمانية المميزة، كما سجل على مدى العقد الأخير فقدان 500 ألف وظيفة في القطاع الصناعي، وبسبب انكماش التصدير تعاني فرنسا اليوم أيضاً من مستويات عجز قياسية. وفي الوقت الذي تراجعت فيه القدرة التنافسية للبلد فقد سجل ارتفاعاً كبيراً في نسبة البطالة حيث بلغت 10 في المئة، أما الدَّين العام فقد وصلت حصته من الناتج المحلي الإجمالي 90 في المئة.
وأمام هذه المشاكل والتحديات يريد هولاند مساهمة أموال الدولة في إيجاد الحلول، ولكن الدولة تستهلك أصلاً 56 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولذا يقترح هولاند رفع الضرائب، ومع ذلك سيحتاج إلى مصادر دخل إضافية لدفع تكلفة الإصلاحات التي أعلن عنها، وهي إصلاحات وصفتها مجلة quot;دير شبيجلquot; الألمانية تندراً بأنها quot;أغاني الثمانينياتquot; المتمثلة حسب هولاند في توظيف 60 ألف مدرس و5 آلاف ضابط شرطة، وخفض سن التقاعد من 62 إلى 60 سنة، بالإضافة إلى الحفاظ على 35 ساعة عمل في الأسبوع دون زيادة. فكيف سيفي هولاند إذن بالتزام تقليص الديون وفقاً للقواعد الأوروبية المتفق عليها بحلول 2013؟
هنا يتعين على طرف ما إخبار هولاند بصعوبة مباشرة إصلاحاته اللهم إلا أن يكون هذا الطرف هو ميركل نفسها، إذ يكفي أن تتدخل الأسواق لتضغط على الرئيس. وفي هذا السياق يمكن لهولاند الاستفادة من تجربة أحد أسلافه الاشتراكيين، فعندما تولى فرانسوا ميتران الرئاسة في 1981 بادر بالاستدانة لتحفيز الاقتصاد، ولكن مجهوده مني سريعاً بالفشل، فتحول ميتران الاشتراكي، إلى ميتران البراجماتي وظل على تلك الحال طيلة فترته الرئاسية. غير أن هامش التحرك الضيق المتاح لهولاند لا يعني أنه لن ينال بعضاً مما يريد، ولاسيما أنه بالفعل اكتسب نفوذاً مهمّاً في الساحة الأوروبية، فخلال حملته الانتخابية وإعلانه عن مواقفه المناهضة للتقشف تحركت المعارضة الألمانية المتمثلة في الحزب الاجتماعي الديمقراطي مشترطة على ميركل لتمرير خطتها لإنقاذ quot;اليوروquot; في البرلمان إدراج لغة هولاند، ولو لعب الاشتراكيون في فرنسا والاجتماعيون الديمقراطيون في ألمانيا أوراقهم جيداً فقد ينتهي الأمر بهولاند باجتراح نجاحات على طاولة النقاش في ألمانيا.
وهذا الأمر تدركه ميركل جيداً، فهي تعرف أنها لا تستطيع التخلي عن quot;اليوروquot; لفائدته الكبيرة بالنسبة للاقتصاد الألماني من جهة ولإرثها الخاص من جهة أخرى، ولذا لم يكن غريباً أن تنخرط المستشارة الألمانية في خطاب مغاير أكدت فيه خلال الأسبوع الماضي على ضرورة النمو الاقتصادي، كما سبق لها أن أعلنت أيضاً في اجتماع المجلس الأوروبي خلال شهر يونيو الفائت أنها ستتقدم بمبادرة لتحفيز النمو تصل قيمتها حسب الشائعات إلى 200 مليار quot;يوروquot;. وهذا المبلغ لن يرقى بالطبع إلى ما يريده أصحاب نظرية quot;كينيزquot; المتطلعون إلى تدخل أقوى للدولة، ولكن في النهاية ستصل القوتان الأساسيتان في أوروبا، فرنسا وألمانيا، إلى تفاهم، على رغم الاختلاف السياسي، سيتم فيه التوافق على السياسات الاقتصادية المشتركة للمرحلة المقبلة.
توماس كلين بروكوف
باحث بارز في laquo;صندوق مارشالraquo; بواشنطن
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
laquo;كريستيان ساينس مونيتورraquo;
التعليقات